تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلوات الله عليه أباه: (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا)؟ أفلا يعقل - يا ذوي الحجا - من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا: أن خليل الله صلوات الله عليه وسلامه لا يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعو إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلوات الله عليه لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ ". اهـ بتصرف

"كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل"، ص31.

وابن تيمية، رحمه الله، في "مجموع الفتاوى" بقوله:

"وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ الْغَنِيَّ أَكْمَلُ وَأَنَّ الْمَعْبُودَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدٌ مِنْ وَصْفِ الْأَصْنَامِ بِسَلْبِ "صِفَاتِ الْكَمَالِ" كَعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْفِعْلِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِذَلِكَ مُنْتَقِصٌ مَعِيبٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تُسْلَبُ إلَّا عَنْ نَاقِصٍ مَعِيبٍ. وَأَمَّا " رَبُّ الْخَلْقِ " الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَحَقُّ الْمَوْجُودَاتِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي الْمُتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاَلَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهَا؛ وَهُوَ يَذْكُرُ أَنَّ الْجَمَادَاتِ فِي الْعَادَةِ لَا تَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ". اهـ

فنفى الخليل عليه السلام عن آلهة آزر وصف الكمال الذاتي: فلا تسمع ولا تبصر، ووصف الكمال الفعلي: فلا تغني عن عابدها شيئا إذ لا تملك، كما تقدم، لنفسها فضلا عن غيرها ضرا أو نفعا، فقرا أو غنى. فلمنطوق النفي مفهوم: إثبات كمال الوصف الذاتي والفعلي لرب الخليل عليه السلام، فأفاد الكلام بمنطوقه نفي الكمال عن آلهتهم، فذلك: يكافئ النفي في الشهادة: لا إله، وأفاد الكلام بمفهومه إثبات الكمال للرب، جل وعلا، وذلك: يكافئ الإثبات في الشهادة: إلا الله.

ويلحق بذلك كل من وصف الرب، جل وعلا، بوصف النقص، فوصفه بوصف البشر أو الشجر أو الحجر، فادعى حلوله أو اتحاده بذوات مخلوقاته الحادثة، فذلك حط من مقام الربوبية بنسبتها إلى ما لا يليق بها من أوصاف العبودية، فمقام الربوبية: مقام كمال، ومقام العبودية: مقام نقصان، بل كلما أمعن العبد في إظهار نقصه وافتقاره إلى الرب، جل وعلا، علت منزلته، ولذلك كان الأنبياء أكمل الخلق إذ كانوا أعبدهم للرب، جل وعلا.

ويلحق بذلك سائر المعبودات مادية كانت أو معنوية، فكلها لا تسمع ولا تبصر، فمن استبدل شرائع العقل بشرائع الوحي، فقد عبد عقلا لا يسمع ولا يبصر الحق فهو محدود القوى لا يدرك من المصالح إلا ظاهرا، فـ: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)، فلا يدرك المآلات، بل لا يدرك من الأحوال إلا ما يوافق هواه، فذلك نوع عبادة لما لا يسمع ولا يبصر من الهوى العقلاني أو الوجداني، ولذلك جاء الإنكار والتوبيخ لمن اتخذ إلهه هواه في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

ويلحق بذلك سائر المذاهب الفكرية الأرضية التي أنكرت بلسان مقالها وحالها وجود رب متصف بكمال السمع والبصر والعلم والحكمة .... ، فصيرت الدين السماوي كبقية الأديان: مذهبا أرضيا موضوعا جرى له ما جرى لبقية المذاهب الوضعية من التطور، كما ذكر ذلك بعض أصحاب نظريات التطور الفكري كأوجستين كومت الذي قال بالتطور من الخرافة إلى الدين إلى الوضعية المادية، فكأن الدين مرحلة انتقالية بين الخرافة والعقل!، وذلك جار على أصول غلاة العقلانيين ممن نصبوا العقل وعزلوا الوحي، فصارت النبوة في أحسن أحوالها جسرا إلى العقل الذي اتخذ إلها يحكم على النبوة بالقبول أو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير