تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَالنَّاسُ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى فِي الْمُدَّعِي لِلصِّنَاعَاتِ وَالْمَقَالَاتِ، كَمَنْ يَدَّعِي الْفِلَاحَةَ وَالنِّسَاجَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَعِلْمَ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْفِقْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.

وَالنُّبُوَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ الرَّسُولُ بِهَا، وَهِيَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُ الْأَعْمَالِ. فَكَيْفَ يَشْتَبِهُ الصَّادِقُ فِيهَا بِالْكَاذِبِ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ: قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ رِضَى الرَّجُلِ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ وَفَرَحَهُ وَحُزْنَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ، بِأُمُورٍ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ، قَدْ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}. وَقَدْ قِيلَ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ.

فَإِذَا كَانَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ وَكَذِبُهُ يُعْلَمُ بِمَا يَقْتَرِنُ مِنَ الْقَرَائِنِ، فَكَيْفَ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، كَيْفَ يَخْفَى صِدْقُ هَذَا مِنْ كَذِبِهِ؟ وَكَيْفَ لَا يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَاذِبِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ؟ ". اهـ

"شرح الطحاوية"، ص108.

ويقول ابن تيمية، رحمه الله، في "شرح الأصفهانية":

"ثم إن النبي لا بد أن يحصل له علم ضروري بأن ما أتاه صادق أو كاذب فيصير إخباره عما علمه بالضرورة كإخبار أهل التواتر عما علموه بالضرورة.

وأيضا فالمتنبئ الكذاب كمسيلمة والعنسي ونحوهما يظهر لمخاطبه من كذبه في أثناء الأمور أعظم مما يظهر من كذب غيره فإنه إذا كان الإخبار عن الأمور المشاهدة لا بد أن يظهر فيه كذب الكاذب فما الظن بمن يخبر عن الأمور الغائبة التي تطلب منه؟.

ومن لوازم النبي التي لا بد منها الإخبار عن الغيب الذي أنبأه الله تعالى به فإن من لم يخبر عن غيب لا يكون نبيا فإذا أخبرهم المتنبىء عن الأمور الغائبة عن حواسهم من الحاضرات والمستقبلات والماضيات فلا بد أن يكذب فيها ويظهر لهم كذبه وإن كان قد يصدق أحيانا في شيء كما يظهر كذب الكهان والمنجمين ونحوهم وكذب المدعين للدين والولاية والمشيخة بالباطل.

فإن الواحد من هؤلاء وإن صدق في بعض الوقائع فلا بد أن يكذب في غيرها بل يكون كذبه أغلب من صدقه بل تتناقض أخباره وأوامره وهذا أمر جرت به سنة الله التي لن تجد لها تبديلا قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}.

وأما النبي الصادق المصدوق فهو فيما يخبر به عن الغيوب توجد أخباره صادقة مطابقة وكلما زادت أخباره ظهر صدقه وكلما قويت مباشرته وامتحانه ظهر صدقه كالذهب الخالص الذي كلما سبك خلص وظهر جوهره بخلاف المغشوش فإنه عند المحنة ينكشف ويظهر أن باطنه خلاف ظاهره ولهذا جاء في النبوات المتقدمة أن الكذاب لا يدوم أمره أكثر من مدة قليلة إما ثلاثين سنة وإما أقل فلا يوجد مدعي النبوة كذابا إلا ولا بد أن ينكشف ستره ويظهر أمره والأنبياء الصادقون لا يزال يظهر صدقم بل الذين يظهرون العلم ببعض الفنون والخبرة ببعض الصناعات والصلاح والدين والزهد لا بد أن يتميز هذا من هذا وينكشف فالصادقون يدوم أمرهم والكذابون ينقطع أمرهم هذا أمر جرت به العادة وسنة الله التي لن تجد لها تبديلا". اهـ

"شرح العقيدة الأصفهانية"، ص364_366.

فهذا أمر جار في آحاد الصناعات الأرضية فكيف بمنصب النبوة التي يحكم بها صاحبها بمقتضى الشرعة السماوية؟.

والشاهد أنه أطنب في معرض الثناء عليه فهو مخلص، وهو رسول نبي، فأكد بالأدنى عقيب الأعلى، فالرسالة مرتبة أخص من النبوة، فهي أعم من جهة معناها وأخص من جهة أفرادها، وذلك جار على ما تقدم من الإطناب في معرض الثناء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير