تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتلك صورة من صور رحمة الرب، جل وعلا، بل هي أعظم صورها، إذ بها يكون صلاح الحال والمآل، فالنبوة سبب النجاة في الدارين، وبها يكون النصر والتأييد في الدنيا والآخرة، فليس وصفها بأنها رحمة الرب، جل وعلا، بمخصص لعموم الإضافة في: "رحمة ربك"، بل ذلك جار مجرى ما تقدمت الإشارة إليه مرارا، من بيان العام بذكر فرد من أفراده، وهو جار مجرى تعظيم المنة بالنبوة بإيراد وصف الرحمة في سياق عموم يقتضي الشمول للدلالة على رحمة النبوة بعينها فهي لعظمها قد نزلت منزلة العموم، فرحمة النبوة عامة تشمل كل المكلفين، لا سيما الرسالة الخاتمة التي نزلت برسم العالمية، رسم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فتنكير الرحمة جار مجرى التعظيم، فالرسالة الخاتمة أعظم رحمة امتن بها الرب، جل وعلا، على البرية.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا:

فخص إسماعيل، عليه السلام، بالذكر بعد الخليل وإسحاق عليهما السلام، اعتناء بشأنه، فهو الابن البكر لإبراهيم، عليه السلام، وهو الذي جاء من نسله النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم الرحمات المهداة إلى النوع الإنساني.

ثم عقب بعلة ذكره: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)، وأعظم صور ذلك صدقه إذ قال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فتبرأ من حوله وقوته، فأيده الرب، جل وعلا، بروح منه فصدق الوعد، وفداه، تبارك وتعالى، بالذبح العظيم فكانت تلك من أعظم صور العناية بالخليل وابنه الذبيح عليهما السلام.

و: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا:

فذلك مئنة من المداومة، فكان يأمر، على حد المضارعة فهي مظنة التجدد في الحاضر والمستقبل بالنسبة لزمن الأمر لا نزول الآيات فالآيات قد نزلت بعد انقضاء ذلك الأمر بداهة، وذلك من تمام الفقه، فقد أصلح الله، عز وجل، له نفسه، بما امتن به عليه من الرسالة والنبوة التي ذيلت بها الآية السابقة، فوجب عليه البلاغ، فكان أولى الناس بذلك أهله، فذلك من قبيل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معرض الإنذار الخاص: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، فكان ذلك قبل ورود الإنذار العام: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا).

ثم جاء ذكر إدريس عليه السلام:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا: فأثنى عليه، عز وجل، بوصف الصديقية والنبوة، ثم رفعه مكانا عليا، فذلك من رفعة المنزلة، وهو أمر عام في كل نبي، وإنما خص به عليه السلام تنويها بذكره، فلا يمنع إسناد الوصف إليه إسناده إلى غيره من الأنبياء عليهم السلام، بل هو ثابت له ولغيره، وأشار البغوي، رحمه الله، إلى قول ثان يكون الرفع فيه هو: الرفع إلى الجنة، وذلك، أيضا، مما عم غيره فقد رفع الأنبياء بل ومن دونهم من الشهداء إلى الجنة، كما في حديث رفع قادة جيش مؤتة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الجنة، وأشار إلى وجه ثالث مشتهر، وهو رفعه بجسده إلى السماء الرابعة كما رفع المسيح عليه السلام، ووقع الخلاف هل هو حي كالمسيح أو قبض، وجمع بعض أهل العلم بين القولين فقال: رفع ابتداء بجسده ثم قبض في السماء فلا حي فيها إلى الآن إلا مسيح الهدى عليه السلام إذ سينزل آخر الزمان لقتل مسيح الضلالة. وعلى كل الأوجه فالمنة بالتخصيص بالذكر والعناية برفع المنزلة والقدر ثابتة لإدريس عليه السلام.

وبعد التفصيل جاء الإجمال فذلك من صور الإطناب بذكر العموم بعد الخصوص، فخص جملة من الأنبياء عليهم السلام بالذكر لشرفهم وعلو قدرهم ثم عم بقوله تعالى:

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا:

فتلك النعمة العظمى هي نعمة النبوة: أعظم نعم الرب، جل وعلا، على النوع الإنساني، كما تقدم مرارا، فأنعم عليهم وعلى من اتبعهم ممن هدى عز وجل، واجتبى من الصديقين والشهداء والصالحين، فإذا تتلى عليهم الآيات الشرعية خروا سجدا وبكيا مئنة من كمال الخشوع والخضوع لوحي الرب الشارع عز وجل، فخشعت القلوب وسجدت الأبدان على ما اطرد بيانه من التلازم الوثيق بين الباطن والظاهر، فإذا سجد القلب بين يدي المليك، عز وجل، سجدت الجوارح لزوما.

وقد صدرت الآية بالإشارة إلى البعيد في مقام الثناء بعلو المرتبة لقرينة سياق المدح، وذيلت بمدح صورة سجودهم فهو أكمل سجود إذ هم أعبد الناس للرب، جل وعلا، وأشدهم تحريا لأخباره بالتصديق، ولأحكامه بالتنفيذ، فمدحت تلك الصورة المثلى: حضا لغيرهم على الاقتداء بهم كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير