تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حقا، فحصل له من صور العناية الخاصة: معقولة كانت أو محسوسة ما ظهرت به آثار قدرة الرب، جل وعلا، وحكمته في سوق المقادير على هذا النحو العجيب، فمن رحم الآلام تتولد اللذات، و: (عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، ثم جاء التعليل لما تقدم من المنة الربانية فـ: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ: فجاء التعليل بالإيماء إلى المعنى الذي اشتقت منه جملة الصلة وما عطف عليها: التقوى والصبر، فلا تنفع تقوى بلا صبر بالمداومة عليها فذلك من ضعف الثقة، ولا ينفع صبر بلا تقوى فهو من جلد الفاجر، وقد استعاذ المحدث العمري، رضي الله عنه، من كليهما فلا ينفع الثقة إن كان جزعا، ولا ينفع القوي الجلد الصابر إن كان فاجرا غير تقي، وإنما ينفع من اتقى وصبر، وهو ما علق يوسف عليه السلام الحكم عليه في قوله: فـ: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"، فصيغة الموصول من جهة العموم كصيغة الشرط، ففي الموصولية معنى التعليل الكائن في الشرطية، فيعلق حكم على وصف، أو مشروط على شرط، فأشربت: "من" الموصولة معنى: "من" الشرطية ولذلك جاز على قول بعض النحاة جزم المعطوف على صلتها: "يصبر"، فرفع عامل جملة الصلة: "يتقي" بضمة مقدرة، وإنما حذفت الياء لرسم المصحف، فرفعه باعتبار لفظ: "من" بحملها على الموصولية، وجزم المعطوف عليها: "يصبر" بالنظر إلى معنى العموم فيها مع تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه صلتها فذلك من جنس تعليق المشروط على الشرط، فأشبهت الشرطية الجازمة من هذا الوجه فجاز بالنظر إلى معناها وقوع الجزم في حيزها، فمن يتقي ويصبر: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، على جهة التوكيد فذلك من الخبر الذي لا يحتمل كذبا، فلا أصدق من خبر الأنبياء، عليهم السلام، فصح توكيده من هذا الوجه، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وإنما أظهر الاسم: "المحسنين" وحقه الإضمار على تقدير: فإن الله لا يضيع أجرهم، إمعانا في تقرير المعنى، فاعتنى بذكر الوصف الذي علق عليه الحكم، ثم بذكر الاسم الجامع له، فالإحسان يتضمن التقوى والصبر لزوما، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، فضلا عن كونه من التذييل الذي يجري مجرى المثل القرآني السائر فناسبه التعميم بذكر وصف الإحسان الجامع لخصال الخير، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن تصدير الكلام بالموصول وتذييله بوصف الإحسان الجامع، مئنة من عموم الحكم، وإن كان سببه في هذا السياق خاصا بتقوى وصبر يوسف وبنيامين عليهما السلام، فكل من اتقى وصبر فإن الله، عز وجل، لا يضيع أجره، وذلك من عنايته، عز وجل، بعباده، فهو الشكور الذي يقبل قليلهم فينميه لهم، فلا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، بل يزيد فيه بتثميره لصاحبه مع غناه عن خلقه أجمعين، ولكنه، تبارك وتعالى، كريم ودود، يتودد إلى خلقه بشتى أجناس النعم الشرعية والكونية مع غناه عنهم وافتقارهم إليه فلا صلاح لأديانهم أو ابدانهم إلا بمدده الشرعي الخاص لأوليائه، ومدده الكوني العام لسائر خلقه.

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ: فأكدوا المنة الربانية بالقسم، واللام، وقد، فذلك أبلغ في تقرير عناية الرب، بيوسف عليه السلام، فقد آثره الله، عز وجل، عليهم، بالعطية الشرعية والكونية، فاصطفاه بالنبوة، وإن نالهم منها نصيب، على القول بنبوتهم، فهم الأسباط، إلا أن يوسف، عليه السلام، خير منهم بالإجماع، والأنبياء، كما تقدم في مواضع سابقة، يتفاضلون، وإن لم يلزم من ذلك تنقيص المفضول، ولا يقدح في نبوتهم الذنب الذي وقع منهم، فإنهم لما تابوا: تاب الله، عز وجل، عليهم، فـ: لا تثريب عليهم، فالنكرة في حيز النفي بـ: "لا" النافية للجنس مئنة من نفي جنس التثريب، فلا تقريع ولا توبيخ ولا لوم بعد التوبة من الذنب فإذا حصلت التوبة ارتفعت الملامة، بل صار المذنب في حال أحسن، فتكون المحنة بالذنب منحة له، من هذا الوجه، فلا تمتنع نبوتهم إذ قد صاروا بالتوبة أهلا لها، فارتفعت منزلتهم بعد مباشرة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير