تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الذنب والتوبة الصادقة منه فلم يكتفوا بقول يوسف، عليه السلام، بل طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم، فوعدهم بذلك، ولم يجبهم فورا، لما وجده في نفسه عليهم، فذلك الظهور الشرعي له عليهم فهو، كما تقدم، أفضل منهم وإن اشتركوا جميعا في مرتبة النبوة، وأما ظهوره الكوني عليهم، فهو ما مكن له، عز وجل، في أرض مصر، فجاءوه معتذرين، فظهر عليهم بعد أن كانوا عليه ظاهرين يوم ألقوه في غيابة الجب.

ومن كمال عنايته، عز وجل، بيعقوب عليه السلام، بعث يوسف، عليه السلام، بقميصه إلى أبيه، فوقعت الكرامة برد بصره، فالكرامة الكونية مما يؤيد به، جل وعلا، عباده المؤمنين، فالكرامة قد تقع تثبيتا أو تأييدا ولو في غير معرض التحدي، وهي هنا من باب التأييد بأمر كوني نافذ عناية بالنبي يعقوب عليه السلام بعد ما ناله من الابتلاء بفقد ولديه: يوسف وبنيامين، فبعد الشدة فرج آت، برد الأولاد ورد البصر معا، فذلك من تمام المنة على أبي الأسباط عليه السلام.

ثم: دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، عليه السلام، فقرب إليه أبويه، وقد خرج إليهم بقرينة: "ادخلوا" مبالغة في الاحتفاء بهم، فحصل الاجتماع بعد الافتراق، و:

وَقَد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعد ما ******* يَظُنان كُل الظنّ ألا تَلاقَيا

وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ: فذلك من تمام المنة بدخول مصر برسم الأمان بعدما دخلوها سابقا برسم الحاجة فشتان الحالان!.

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ: فوقع تأويل الرؤيا في عالم الشهادة، فالتأويل هنا بمعنى وقوع المخبر به سلفا، فأخبر يوسف عليه السلام أباه بالرؤيا كما في أول السورة ثم وقع تأويلها في عالم الشهادة كما في آخر السورة وبينهما من الابتلاء بالإلقاء في الجب ودخول السجن ثم الظهور والتمكين في الأرض ما بينهما فهو عبرة جليلة وفيه من المواساة لأصحاب البلاء وإن طال ما هم فيه، وإنما تذهل العقول عن تلك المعاني الجليلة ساعة وقوع البلاء إلا من امتن الله، عز وجل، عليه بثبات الجنان وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فالبدار البدار يا أصحاب العافية قبل نزول البلاء، فإنه نازل لا محالة، بمقتضى السنة الكونية النافذة، فمن عرف الرب، جل وعلا، في الرخاء، نظر إليه الرب، جل وعلا، بعين الرأفة والعناية في الشدة.

فخروا له سجدا: سجود التكريم، وذلك مما نسخ في شريعتنا سدا لذريعة تعظيم المخلوق والغلو فيه.

ثم أطنب عليه السلام في بيان منة الرب، جل وعلا، السابغة عليه:

وَقَدْ أَحْسَنَ بِي: فلطف به الرب، جل وعلا، على تضمين فعل الإحسان معنى اللطف، ثم ثنى بذكر صور الإحسان: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، وعلة ذلك: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ: فاللطف يدل على نوع تدبير للملائم على جهة الخفاء فليس كالتدبير الظاهر، بل فيه من الخفاء ما يدل على عظم علم وحكمة الرب، جل وعلا، ولذلك ذيل بوصفي العلم والحكمة: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

ثم ختم مقالته بدعاء الثناء والشكر للرب جل وعلا:

رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ: فذلك من أدلة الربوبية الخاصة فذلك مما امتن به الرب، جل وعلا، على يوسف عليه السلام دون غيره من الأنبياء.

فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: فذلك من أدلة الربوبية العامة، فهو المنشئ لهذا الكون على هذا النحو البديع، فلا مثال سابق له، وإنما خُلق بقدرة وحكمة الرب الخلاق العليم تبارك وتعالى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير