تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتطهيرا للقلوب بنفي خبثها بكير الابتلاء، فكل ذلك مئنة من صدق رسالته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل ما ساد أتباعها إلا بالتزام أحكامها، فمتى أقاموا النبوة أقاموا الملك، فهما قرينان متلازمان من جنس التلازم بين نبوة وملك داود وسليمان، عليهما السلام، ومتى أعرضوا عنها انهدم ملكهم فصاروا شراذم مستضعفين، بل سلط الله، عز وجل، عليهم، كما في زماننا، أخس العالمين، يهود، معدن الذلة والمسكنة، فصاروا عليهم أعزة، فمتى راجعوا النبوة عادت إليهم العزة المفقودة فـ: "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ". فكيف لا تكون نبوة صادقة، ولها من البراهين العقلية والحسية هذا القدر، والتاريخ شاهد عدل فإنه متى قامت هذه النبوة ساد الأمن برحمتها، فأمن البلاد والعباد إنما يكون بقدر ما فيها من النبوة، فالمصر الذي يكون فيه ظهور النبوة أكبر، يكون الاستقرار والأمن فيه أكبر، والعكس صحيح، فالأمر مطرد منعكس، وذلك، كما تقدم، مئنة من صدق هذه الرسالة التي بعث صاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم برسم الرحمة فـ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

وفي الآية أيضا دليل على تفاوت المجتهدين، فقد يفهم أحدهم ما لا يفهمه غيره، وإن كان غيره أفضل منه، فداود، عليه السلام، أفضل من ابنه، ومع ذلك، فَهَّمَ، الله، عز وجل، الابن، بصيغة التضعيف الدالة على الزيادة في المبنى بنسبة أصل الفعل إلى سليمان عليه السلام على سبيل المبالغة، في معرض الترجيج بين حكمه وحكم أبيه، فحكمه أسد، وإن كان لحكم أبيه، قدر من السداد، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ففهم سليمان ما لم يفهمه داود، وفي ذلك، أيضا، دليل لأصل الترجيح بين الأدلة المتعارضة، فإن الدليلين قد يكون كلاهما صحيحا، ولكن لأحدهما قدرا زائدا من الصحة يرجحه على الآخر، وأوجه الصحة، كما قرر الأصوليون، تتفاوت إسنادا ومتنا، وهذا مبحث جليل الوصف والقدر أفرده بعض أهل العلم بالتصنيف، وكتب الترجيح بين مختلف الحديث بيان عملي لهذا العلم الجليل.

وفي الآية، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، دليل على عذر المجتهد، إذا اجتهد فأخطأ، أو أصاب خلاف الأولى، كما في هذه الواقعة، فكلاهما قد أصاب، لكن حكم سليمان، عليه السلام، كان، كما تقدم: أصوب.

ثم جاء التذييل في معرض الاحتراز مما قد يرد على الأذهان من خطأ داود، عليه السلام، في الحكم، وهو النبي المعصوم، فـ: كُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا: فامتن الله، عز وجل، عليهما بالنبوة فهي الحكم، والعلم فبه يقضون بين الناس، وعطفه على النبوة من باب عطف التلازم، فالعلم لازم النبوة بداهة، فلا نبوة بلا علم، بل إن العلم بأشرف أجناس العلم: علم التوحيد هو خلاصتها فـ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

ثم جاء الإطناب بذكر أوجه من العناية الكونية بداود، عليه السلام، ابتداء: فـ: سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ: فأسند فعل التسخير إلى ضمير الفاعلين، على ما تكرر مرارا في مثل هذه المواضع من مناسبتها للتعظيم فهي آيات كونية خارقة امتن بها الرب، جل وعلا، على أنبيائه، عليهم السلام، تكريما، كما في هذه الآية، أو تثبيتا، في معرض التحدي لمنكري النبوات.

فسخر جنس الجبال، وذلك آكد في بيان عموم المنة، ولذلك قد يحسن إعراب الجملة بعدها: صفة لا حالا بالنظر إلى معنى الجنسية فهو مظنة الشيوع الذي تدل عليه النكرة، فيكون ذلك من قبيل ما قال النحاة في نحو:

ولقد أمر على اللئيم يسبني ******* فمضيت عنه وقلت لا يعنيني.

فأعربت جملة: "يسبني": صفة للمعرف بـ: "أل" الجنسية لمظنة الشيوع الذي ينزل منزلة النكرة فليس المراد به لئيما بعينه، بل المراد جنس اللئام فهو نكرة من هذا الوجه والجملة بعد النكرات: صفات، كما قرر النحاة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير