تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكذلك سخر جنس الطير ليسبح مع الجبال، فكان الرب، جل وعلا، بمشيئته العامة، فاعلا لهذا التسخير فالتذييل بذلك من باب التوكيد على تمام عنايته بداود، عليه السلام، فشاء إكرامه بهذه الآية الكونية الباهرة. فذلك من الإكرام بالسبب غير المعتاد.

وفي معرض العناية بالسبب المعتاد: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ، على ما اطرد من دلالة التعظيم على تمام العناية به، فعلمناه صنعة لبوس لكم، فذلك من الامتنان على المخاطبين، إذ توارثت الأمم هذه الصنعة التي تقي المقاتل ضربات العدو، فاللبوس، قد صار حقيقة عرفية مشتهرة في لأمة الحرب دون غيرها من جنس اللبوس، وإن كانت حقيقتها اللغوية باعتبار دلالتها المعجمية المطلقة تدل على عموم أجناس اللبوس التي يرتديها الإنسان، والحقيقة العرفية المقيدة مقدمة على الحقيقة اللغوية المطلقة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع سابقة.

فذلك من الامتنان بعطاء التعليم، وهو من عطاء الربوبية فناسب ذلك التذييل بلازم ذلك من الشكر، فهو واجب الألوهية: شكرا لعطاء الربوبية، على ما تقدم مرارا.

وجاء الأمر بالشكر بصيغة الاستفهام، ففيه مزيد حض لا يوجد في الأمر المجرد، ودخول "هل" على الجملة الاسمية، والأصل فيها دخولها على الفعلية لدلالتها التصديقية والغالب فيها نسبة الفعل إلى الفاعل إثباتا أو نفيا، فذلك التصديق الذي يسبق التصور كما في: هل جاء زيد، فلم يثبت الفعل ابتداء لينتقل الذهن إلى مرحلة التصور التالية للتصديق، فلما جاء السياق بخلاف الأصل فتلا الاسم "هل" كان ذلك مئنة من التوكيد لدلالة الجملة الاسمية على الثبوت والاستمرار، كما قرر ذلك، صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وأشار إليه صاحب "جواهر البلاغة" رحمه الله، في معرض بيان أغراض الاستفهام بـ: "هل" فهو يفيد التوكيد على الأمر بإيراده مورد الحض على تأويل: اشكروا الله، عز وجل، بإفراده بالألوهية على تلك النعمة فهي من نعم الربوبية السابغة، وذلك من جنس الاستفهام في نحو قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)، فتقديره: انتهوا.

ثم جاءت صور العناية بسليمان عليه السلام فمن كراماته:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ:

فسخر الرب، جل وعلا، الريح لسليمان عليه السلام فجريانها بأمره الذي لا يخرج عن الأمر الكوني النافذ، ولا عن الأمر الشرعي الحاكم، في هذا الموضع بعينه، فأمره، كما تقدم، أمر نبوة، والنبوة لا تأمر إلا برسم الحق والعدل لمكان العصمة.

وقد بين إجمال تلك الريح بوصفها بالقوة في هذا الموضع، وزيد في البيان في مواضع أخر من التنزيل كقوله تعالى: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر}، فبين الإجمال في الزمان، و: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب}، فوصفها باللين، فهي قوية حينا لينة حينا لاختلاف الأحوال كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهو جار على ما تقدم مرارا من استقراء آي التنزيل وتتبع موارد البيان لما أجمل في موضع سواء أكان الإجمال كليا أم جزئيا كما في هذا الموضع، فقد وقع البيان الجزئي بوصفها بالقوة، وزيد فيه في موضع بذكر الزمان، وفي ثالث بذكر وصف آخر يضاد القوة وهو اللين لتعدد الأغراض فتارة يكون اللين هو الأنسب، كسير الفلك في البحر، وتارة تكون القوة هي الأنسب، كجلب الأرزاق ونحوه.

ثم أطنب في بيان معجزة أخرى انفرد بها سليمان عليه السلام، فهي من بيان إجمال الملك في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير