تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونوازل عامة كاستباحة بيضة الإسلام في بعض الأمصار، وكانتهاك المقدسات والتربص بها، كما يجري الآن في بيت المقدس، فتسلط أحقر الخلق على البيت المقدس عقوبة عامة بالذل والمهانة للجماعة المسلمة التي فرطت في أمر الديانة، وهو، أيضا، من وجه آخر، خير إن كان باعثا على الرجوع إلى الجادة فتلك أعظم ثمار النوازل العامة.

والشاهد أن أيوب، عليه السلام، قد أفرد بالذكر في حال النداء أو بسببه، كما تقدم من دلالة: "إذ" في مثل هذا الموضع، وكلاهما صحيح فذكر في أكمل أحواله في معرض الثناء عليه، وسبب إفراده بالذكر ما كان منه من صبر ورضا، رفع الله، عز وجل، به ذكره، وأعلى من شأنه، فصار، كما تقدم، مضرب المثل في الصبر.

وجاء النداء مجملا عقب ببيانه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وفي إتيانه بلفظ المس، وهو مئنة من الخفة، تأدب مع الرب، جل وعلا، هو اللائق بكمال حال الأنبياء، عليهم السلام، فالنبوة تعصم صاحبها من سوء الأدب، مع الرب، جل وعلا، فذلك أمر غير متصور من آحاد الصالحين فكيف بخير خلق الله من الرسل والنبيين عليهم السلام، فأين ذلك مما أقحمته يهود: وهم أعرق الأمم تحريفا للوحي، أين ذلك مما كتبته أيديهم الآثمة من أقوال وأفعال للأنبياء عليهم السلام فيها من سوء الأدب مع الله، عز وجل، ما لا يكاد يصدر من أكفر وأفجر الخلق، فضلا عن أعظمهم إيمانا وأتقاهم للرب، جل وعلا، فشأنهم في ذلك ما اعتيد منهم من التحقير من شأن النبوة بنسبة الأنبياء عليهم السلام إلى فاحش القول والفعل الذي يتنزه عنه آحاد البشر، ولو لم يكن مؤمنا بالنبوة، فهي فواحش تنبوا عن ذكرها الأسماع، وعن فعلها الفطر السليمة، ولو كان أصحابها على غير دين التوحيد، فمن في قلبه بقية أثر من الفطرة الأولى، ولو طرأ عليها من التبديل ما طرأ، لا بد أن تشمئز نفسه من نسبة تلك الأفعال إلى من يفترض فيهم أنهم صفوة البشر، بل هم كذلك بالفعل، حتى عند مخالفيهم، فما أنكروا عليهم خُلُقا، بل كانوا أعظم الناس صدقا وأمانة وديانة قبل مبعثهم، فنعت صالح بقولهم: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا)، على قول ذكره البغوي رحمه الله في تفسيره، ونعت صلى الله عليه وعلى آله وسلم بـ: "الصادق الأمين"، وأقر أبو جهل في إنصاف عجيب يفتقر إليه كثير من أهل زماننا من أعداء النبوات!، أقر بصدق النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأقر به أبو سفيان، رضي الله عنه، وهو لما يؤمن، كما في حديث هرقل، بل وأقر به هرقل نفسه، فما كان لنبي أن يدع الكذب على العباد ليكذب على رب العباد، فذلك باطل بقياس الأولى، فإن من تورع عن الأدنى قبحا صيانة لنفسه من دنس النقائص تورع عن الأعلى بداهة، وإنما صد من صد عن اتباع الأنبياء عليهم السلام لحظ نفس عارض تمكن من قلوبهم فصدهم عن اتباع الحق الذي سلبهم إياه، فالنبوة تسلب من أصحاب السلطان سلطانهم لترد الأمر إلى رب الأرباب، جل وعلا، فلا يكون الملك فيها إلا على رسم الإيمان لا على رسم الطغيان الذي يمارسه أعداء النبوات في كل زمان، ففسد تصورهم العلمي بتقديم العاجل الفاني، وهو حقير، على الآجل الباقي، وهو عظيم، بل لهم منه أثر عاجل في الدنيا لو تمهلوا فلم يستعجلوا حظ النفس، فإن اتباع النبوة مئنة من السعة في الأولى والآخرة، وإن كان ثم تضييق في أول الأمر فهو من التمحيص العارض فمآله إلى الزوال، ولو بعد حين، ليأتي الفرج عقيب الكرب، والسعة عقيب الضيق، فينسى المرء ما قد لحقه من الألم، كما ينسى أتعس أهل الأرض من أهل الجنة ما مسه من الآلام في دار الابتلاء إذا غمس غمسة واحدة في النعيم، فلذلك نظير في الدنيا يجده من ابتلي فصبر حتى جاء الفرج، فهذه من تلك، وإن اختلف القدر، فلا يعادل قدر السعة في الدنيا قدرها في الآخرة بداهة إذ الدنيا دار قد طبعت على الكدر فلا تخلو من الهم والنصب، بخلاف الدار الآخرة فهي دار النعيم الخالص من الأكدار السالم من الأغيار، فنعيم مقيم لا ينقطع قد بلغ الغاية في الوصف والقدر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير