تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن أيوب عليه السلام قد نادى بالتعريض دون التصريح تأدبا مع الرب الجليل، تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فـ: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، و: "أل" في الضر جنسية لبيان الماهية، فمسه الضر وهو في النفس بالمرض وفي الأهل بالهلاك وفي المال بالتلف، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالعموم فيه معتبر من جهة شموله معاني الضر فقد ناله الضر في النفس والأهل والمال، وإن لم يكن استغراقيا من جهة شموله سائر صور الضرر الأخرى فلم ينزل به، عليه السلام، كل ضر في هذا الكون بداهة!، وقد تحمل: "أل" فيه على العهدية فقد مسه ضر معهود هو الضر الذي نزل به بعينه، فلسان ندائه: مسني الضر الذي أنت به أعلم وأنت أرحم الراحمين، فذلك من التذييل بفحوى الدعاء دون لفظه، فالثناء على الكريم في معرض الطلب مغن عن الطلب فالكريم يعطي من يتعرض لسؤاله وإن لم يصرح، وذلك في مقام طلب رفع الابتلاء الكوني أبلغ، ففيه نوع احتراز مما قد يتوهم من الجزع وقلة الصبر، فهو دعاء برسم الرضا والتسليم لقدر الرب الرحيم جل وعلا.

ثم جاء جواب النداء من الرب السميع تبارك وتعالى، فسمع دعاء عبده أيوب، عليه السلام، سماع الرعاية والعناية، بذلك الصابر المرابط على ثغر الرضا طيلة سنوات الابتلاء، فأجيب على الفور الذي دلت عليه الفاء التعقيبية التي لا تخلو، كما تقدم في أكثر من موضع، من معنى السببية فالدعاء سبب الإجابة، فلا إجابة لغير دعاء بداهة، بل تستنزل الرحمات وتستدفع النقمات بالدعاء فهو سبب كل خير في الدين والدنيا، وهو من أعظم الأسباب الشرعية، فإن استفرغ المكلف وسعه في تحصيل الأسباب الكونية برسم التوكل، في أمر دين كجهاد، أو أمر دنيا كسعي في طلب المعاش، وشفع ذلك بالسبب الأعظم لحصول المرجو من الدعاء المشروع، كان ذلك آكد في حصول المرغوب على الوجه الذي يرضي الرب المعبود جل وعلا.

وزيد في مبنى الفعل: "فَاسْتَجَبْنَا"، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، مئنة من كمال العناية بأيوب عليه السلام، فضلا عن إضافته إلى ضمير الفاعلين في سياق يقتضي التعظيم مئنة من كمال العناية به، عليه السلام، كما تقدم، وجاء بيان مجمل تلك الإجابة الربانية في المعطوف عليها فهو من عطف المبين على المجمل: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)، فكشف الرب، جل وعلا، ما به من ضر، وذلك من وصف فعله، فهو الكاشف، على جهة الإخبار لا التسمية، لما يمس العباد من ضر في دين أو دنيا، فيكشف السوء عن العاصي بالتوبة، ويكشف السوء عن المبتلى بالعافية: (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)، فجاء التذكير بربوبيته، عز وجل، ربوبية الاعتناء بالمضطرين، ولو لم يكونوا مؤمنين، بكشف السوء عنهم، ثم جاء الأمر بلازم ذلك من وجوب إفراده بالألوهية لازم الربوبية، فالاستفهام يحمل معاني الإنكار والتوبيخ للمشركين لإتخاذهم إلها مع الله، عز وجل، وصور الآلة لا تنتهي ولذلك جاءت النكرة في سياق الاستفهام مئنة من العموم، كما قرر الأصوليون، ففيه الإنكار على كل من اتخذ مع الله، عز وجل، إلها سواء أكان بشرا أو حجرا أو شجرا، محسوسا كالآلهة المنحوتة أو معقولا كالأهواء والشرائع الموضوعة لمنازعة حكم الملك، جل وعلا، فيستفاد من ذلك التوبيخ الأمر بضد سببه لئلا ينال العبد منه نصيب، فسببه الشرك فيكون السياق دالا بمفهومه على الأمر بضد الشرك من كمال التوحيد العملي بقول العبد وفعله، وذلك، كما تقدم، يعم سائر أحواله من شعائر تعبدية وأحكام شرعية وسياسات ملوكية وأخلاق إنسانية ....... إلخ فالتوحيد معنى جامع لأجناس شتى من الطاعات التي قررتها النبوات بأبلغ وأوفى بيان فلم تدع لمستدل حاجة إلى ما سواها من أهواء أو أذواق البشر.

فكشف عز وجل، ما به من الضر في نفسه، والموصول: "ما" بإبهامه مئنة من عظم البلاء الذي نزل به، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، مع صبره وتلطفه في السؤال حتى استحى أن يذكره بفعل الإصابة فاكتفى بفعل المس، كما تقدم، فجاء الموصول مبهما ثم عقب بـ: "من" البيانية الجنسية التي دخلت على الضر منكرا: "ضرا" فذلك، كما تقدم مئنة من عظمه، ونظيره في التنزيل قوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، فسياق الامتنان بالنعمة يناسبه الإبهام ثم البيان عقيبه بـ: "من" البيانية التي دخلت على النكرة، وهي مظنة العموم، وذلك مئنة من عظم النعمة، وذلك، كما تقدم، مما يلائم سياق الامتنان والعناية بورود النعمة الربانية العظيمة، فكذلك الشأن هنا فالمنة والعناية تزداد بيانا بإيراد الضر المكشوف مورد التنكير فهو، كما تقدم، مظنة التعظيم، فتعظم المنة برفع البلاء العظيم، كما تعظم بحلول النعمة العظيمة.

والكشف قد ورد في هذا السياق مجملا، فبيانه في محل آخر من التنزيل: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)، فعم الدواء ظاهره بالاغتسال وباطنه بالاحتساء، فحصل له من تمام العافية ما عم سائر أجزاء بدنه، وذلك، أيضا، من صور العناية الربانية الخاصة به عليه السلام.

وجاء الإطناب بالامتنان برد الأهل ومثلهم معه فذلك رحمة من الرب، جل وعلا، نكرت تعظيما، وهي مع ذلك: ذكرى، نكرت، أيضا، على جهة التعظيم للعابدين المنقادين برسم العبودية الاختيارية لرب الأرباب جل وعلا.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير