تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وذكرهم من وجه آخر: تنويه بشأنهم، فهم كما تقدم، أشرف أفراد العام، فمادة الصبر قد اشترك فيها فئام من البشر أصدقهم تخلقا به، فذلك من صدق الإرادة، وأعظمهم تحليا به، فهو من كمال الوصف: الأنبياء عليهم السلام، فهم أصدق البشر إرادات وأصحهم أعمالا، فخص أيوب عليه السلام ابتداء إذ قد صار، كما تقدم، مضرب المثل في الصبر، ثم جاء ذكر الثلاثة عليهم السلام فلهم من هذه الدرجة الرفيعة نصيب عظيم فـ:

إسماعيل عليه السلام من الموسومين بالصبر، على جهة الإجمال في هذا السياق، وقد جاء بيانه في مواضع أخر، فجاء في نحو قوله تعالى: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، فصبر على الابتلاء بالذبح، وقوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)، وصدق الوعد لازمه الصبر على إنجاز الموعود، و: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)، فاحتمل من الآلام والمشاق مع أمه، عليها السلام، ما احتمل، امتثالا لأمر الرب، جل وعلا، للخليل عليه السلام بأن يسكن من ذريته بواد غير ذي زرع، فجاء بيان الإجمال في هذا الموضع في أكثر من موضع آخر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك جار على ما تقدم مرارا من بيان آي التنزيل بالتنزيل.

وأما إدريس عليه السلام، فقد ذكر من صبره: صبره على الجوع والعطش طلبا للعلم والحكمة، وذلك أمر قد اختص الأنبياء عليهم السلام بما لم يختص به غيرهم، فـ: "إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"، فلهم من القدرة على تحمل الجوع والعطش ما ليس لغيرهم، فليس كل ما يحسن في حقهم من العزائم يحسن في حق غيرهم، ولذلك نهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الوصال في الصيام إلا إلى السحر لمن أراد مع كون التعجيل بالفطر أولى، فـ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ"، وذلك ما خالف فيه بعض أهل البدع: أهلَ السنة فيتقصدون تأخير الفطر مخالفة للسنة وأهلها، والشاهد أن الإقلال من الطعام والشراب: أمر مجمل، فقد يحسن إن كان على رسم الصيام والاعتدال فلا تكون حكمة مع شبع وامتلاء، كما أثر عن أحمد، رحمه الله، فالبطنة تذهب الفطنة، وحد الاعتدال في هذا الشأن كما ذكر بعض أهل العلم: أن تضع يدك في الطعام وأنت تشتهيه وترفعها وأنت تشتهيه، فلا تفريط في حق النفس بالإقلال من المطعم على وجه يحصل به الضعف والخلل في العقل والبدن، كما وقع لغلاة المتعبدة من سائر الملل، فأقلوا الغذاء على غير الوجه المعتاد الذي يحصل به اعتدال المزاج، فذلك الوجه المشروع، فأقلوا الغذاء على غير هذا الوجه، وخرجوا إلى وجوه شاذة صيرتهم مضرب المثل في الغلو والتنطع، وذلك مما ذمته الشريعة الخاتمة: فـ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ"، فحصل لهم الضعف والخلل في عقولهم فيرون خيالات هي من الشيطان زكتها في نفوسهم آلام الجوع!، فذلك الوحي الشيطاني الذي به أرسلوا عقوبة كونية على من صدقهم وتابعهم على خرفهم، فغاية الأمر أنهم يعانون سوء تغذية حاد!، فلو أطعموا لردت إليهم عقولهم الذاهلة لما أصابها من أثر الجوع الشديد الخارج عن حدود المشروع والمعقول، فلا شرع ولا عقل يشهد لطريقتهم في تعذيب الأبدان بقطع مادة الحياة الكونية عنها بحجة الاستكثار من مادة الحياة الشرعية، فالفصام النكد بين الدين والدنيا سمة بارزة في الملل والنحل الباطلة، وكلما خفيت آثار النبوة في أرض ظهر من تلك الخرافات والهلاوس ما ظهر، إذ عدد الجائعين من المتعبدة والمتنسكة في ازدياد، فرهبان الهنادكة والفرس لانقطاع مادة النبوة من أرضهم: أعظم الناس شأنا في هذا الباب، ورهبان النصارى لدروس آثار النبوة الصحيحة من دينهم التثليثي المخترع: أعظم شأنا من متنسكة أهل القبلة من غلاة أهل الطريق، فلهم من النبوة الصحيحة حظ ليس لمن قبلهم، وإن وقع لكثير منهم انحراف جلل عن طريق النبوة خرج بغلاتهم عن حد الملة الجامع فمرقوا منها بالكلية، ولكنهم إجمالا أحسن حالا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير