تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فذكر ذو النون، عليه السلام، بالحدث الأعظم في سيرته، وهو النون الذي التقمه في معرض التربية الربانية للعبد الذي اجتهد فخرج بلا إذن شرعي، مغاضبا لقومه في ذات الله، عز وجل، فما خرج لحظ نفسه، وإنما خرج انتصارا لربه، جل وعلا، ولكنه اجتهد في ذلك، على ما تقرر من جواز اجتهاد الأنبياء عليهم السلام، فإن أصابوا الحق، أقرهم الوحي، وإن فاتهم الأولى ففعلوا خلافه، لم يقرهم الوحي الصانع لهم على عين الرب، جل وعلا، فذلك من كمال عنايته، عز وجل، برسله، عليهم السلام، فيعصمهم، ولو ابتلاهم، فلا يقرهم على مرجوح، وإن كان قصدهم خيرا، بل لا بد أن يكون ذلك لسمو نفوسهم وكمال أوصافهم، ولكن ذلك لا يعني إقرارهم على المفضول، فلا يليق بكمالهم إلا الفاضل من الحق المطلق، فلكل قدره، والنفوس الكبيرة لا يليق بها إلا المراتب الرفيعة والمنازل الشريفة، فما كان في حق غيرهم جائزا كفوات الأرجح في معرض الاجتهاد، لا يكون جائزا في حقهم لمكان العصمة، فجاءت التربية الربانية لذي النون عليه السلام بالتقام الحوت له، فذلك دليل عدوله عن الأولى، فكانت المنحة بالعناية تصحيحا للاجتهاد وإن كان ظاهرها المحنة، فذلك لازم التمحيص والتصفية، فلا بد من ابتلاء يزول به أثر المخالفة، ولو صدرت من نبي معصوم، فقد عاتب الرب، جل وعلا، نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما اجتهد فرأى المصلحة الشرعية في الإعراض عن ابن أم مكتوم، رضي الله عنه، والالتفات إلى سادات قريش في موضع بعينه، كادوا فيه أن يميلوا إلى دعوته، فلما جاء فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خلاف الأولى نزل الوحي بآيات العتاب عناية به صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإرشاده إلى أكمل الأحوال، فإنه أحق الناس بأرفع درجات الكمال البشري، فهو صفوة الصفوة من الأنبياء وأولي العزم، عليهم السلام، فلا أحد يتقدمه من الخلق، بل كل تال له في الفضل، فمن كان ذلك وصفه، فلا بد أن تكون عناية الرب، جل وعلا، به عظيمة، فلا يرضى الحبيب لحبيبه، أو الخليل لخليله، إلا أشرف المراتب وأكمل الأحوال، فما جرى لذي النون، عليه السلام، من كمال العناية بكمال التربية والصناعة الربانية، قد جرى أعظم منه للنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه لم يبتل أحد ابتلاءه في معرض تنقيته وتخليص جوهره النفيس من أي شائبة تعكر صفوه وبريقه، فهو أشد الناس ابتلاء حتى في مرضه، كما في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، وهو الذي ابتلي بفقد الزوجة والولد، وقتل الأصحاب، وجراحات الحرب، فمسه ممس المؤمنين القرح يوم أحد، وهو الذي ابتلي بالفقر فصبر، وابتلي بالغنى فأعطى وشكر، فكان عطاؤه عطاء من لا يخشى الفاقة فـ: "إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبَخِّلُونِي فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ"، فليس بباخل، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فظهر فما بطر، وكُسِر فما جزع، فلسان مقاله وحاله: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي"، في شدة أو رخاء، في ضيق أو سعة، فمراده الأعظم رضا الرب الأعز الأكرم، تبارك وتعالى، ولكل حال ما يلائمه من أجناس العبودية، والأنبياء عليهم السلام هم المقدمون في هذا الوصف فعبوديتهم أكمل العبوديات، ولذلك فطن ذو النون عليه السلام إلى سر المسألة، فعلم ما كان منه من فوات الراجح إذ خرج بلا إذن شرعي فـ: ذَهَبَ مُغَاضِبًا، فظن أن لن يضيق الرب، جل وعلا، عليه، إذ خرج مغاضبا في ذاته لا لحظ نفسه، كما تقدم، أو ظن أن لن يحكم الرب، جل وعلا، عليه بالمحنة، فذلك وجه آخر أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فخروجه كان انتصارا لدينه ويأسا من قومه، فربما كان اجتهاده من رسم اجتهاد الخليل عليه السلام: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، ولكن الأمر لم يخل من نظر مرجوح لعدم صدور الإذن الإلهي بالخروج، فلا يخرج النبي إلا بإذن، فإن هودا وصالحا ولوطا لم يخرجوا إلا بإذن، لما شاء الرب، جل وعلا، بما علم وقدر من الأزل إصرار أقوامهم على الجحود وعنادهم فلا يؤمنون، فكان خروجهم الخروج الأكمل، وكذلك كان حال نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه لم يخرج من مكة مهاجرا إلا بإذن ربه، جل وعلا، فالنبي لا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير