تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يفصل في أمر كهذا إلا بوحي من الرب، جل وعلا، فظن ذو النون، عليه السلام، أن الأمر مما يسوغ فيه الاجتهاد، فاجتهد، وهو أهل لذلك بداهة، فعلوم الأنبياء، عليهم السلام، أكمل العلوم، وعقولهم أكمل العقول، ومعهم من التأييد الرباني ما ليس مع غيرهم، وإن بلغ من الكمال ما بلغ، فأصاب باجتهاده، كما تقدم خلاف الأولى، فجرى ما جرى من ركوب السفينة والقرعة التي ألقت به في اليم والتقام الحوت له، وسكونه في الظلمات: ظلمة جوف الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل، أو الظلمة المتكاثفة الشديدة، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فنزلت منزلة الظلمات المجموعة التي دخلت عليها: "أل" الجنسية الاستغراقية، فأفادت العموم إمعانا في بيان الشدة التي لاقاها ذو النون، عليه السلام، في معرض العناية الربانية به، عليه السلام، بتمحيص قلبه مما علق به من شوب المخالفة، ولو برسم الاجتهاد، فذلك، كما تقدم، من كمال عنايته، عز وجل، برسله وأنبيائه، عليهم السلام، بل وبعامة أوليائه من الصديقين والشهداء والصالحين، فيبتلى كل على قدر إيمانه، بل ذلك أمر لا يسلم منه أحد بمقتضى السنة الكونية النافذة، فيطال الابتلاء المؤمن فيكون تمحيصا له، ويطال الكافر فيكون تذكيرا له، فهو عناية به، لو تدبر هذا الوجه، فبه يتذكر قدرة الرب، جل وعلا، وبه يقع التمايز بين مقام الربوبية: مقام الجلال والقوة، ومقام العبودية: مقام الذل والضعف، فكل ذلك قد دلت عليه الفاء الفصيحة في معرض الإيجاز الذي امتاز به البيان القرآني المعجز، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فتقدير الكلام: فكان ما كان من ركوبه السفينة ...... إلخ حتى استقراره في بطن الحوت فـ: فَنَادَى، بعد أن استقر فِي الظُّلُمَاتِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ: فكان الابتلاء الكوني سببا في استخراج تلك الكلمات الطيبيات برسم التوبة والأوبة منه عليه السلام، وتلك، كما تقدم، مصلحة عظمى، فاقت كل مفسدة تقدمتها، فبها حصلت العظة الربانية، وبها نال ذو النون، عليه السلام، درجة ما كان لينالها لولا ما وقع له من الابتلاء، بل إن أجناس العناية الربانية، كانت تحيط به في أحلك ساعات الظلمة، فصدرت الكلمات الكونيات للحوت ألا يهضم بدنه الرقيق وهو الذي يهضم أضعاف أضعافه من الكائنات، ثم جاء التعقيب بالفاء فهي مئنة من التعقيب فدلالتها على الفورية مئنة من كمال العناية الربانية بذي النون، عليه السلام، فضلا عن دلالتها السببية فإن ما كان بعدها من الاستجابة كان بداهة بمقتضى ما قبلها من الدعاء فالاستجابة فرع الدعاء، وذلك من التلازم العقلي بمكان، فعلة هي الدعاء يعقبها معلولها من الاستجابة التي جاءت مزيدة في المبنى بالألف والسين والتاء مئنة من زيادة المعنى، فذلك أبلغ في معرض بيان صور العناية الربانية التي تحتف بالأنبياء، عليهم السلام، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقرائن الإجابة في حقهم أكثر عددا وأعظم وصفا من غيرهم، ولذلك قال أهل العلم في دعاء ذي النون، عليه السلام، وهو مظنة تفريج الكروب، أن لكل داع منه نصيب، وإنما تتفاوت سرعة الإجابة تبعا لتفاوت القرائن التي تحتف بكل دعاء، فليس كل المكروبين سواء في صفاء محالهم، بل منهم مشركون يدعون برسم الاضطرار فيستجيب الرب، جل وعلا، برسم الإنعام العام على سائر الخلق ولو كانوا كفارا مشركين، وأحيانا تكون المصلحة في تأجيل الإجابة، أو حتى منعها، إذ لو أجيب العبد إلى ما طلب لكان سببا في فساد أعظم يناله، فكانت رحمة الرب، جل وعلا، به، أن أخر الإجابة أو منعها، صيانة له مما يظنه صلاحا وهو في حقه باعتبار مآله: عين الفساد، ولذلك نهينا عن التعدي في الدعاء، فإنه لا أحد منا يعلم وجه المصلحة الشرعية أو الكونية على وجه الكمال والتحديد، فذلك مما استأثر به الرب العليم الحكيم، تبارك وتعالى، والشاهد أن الاستجابة لدعاء المبتلى تتفاوت، فقد يتأخر تمحيصا، وقد يعجل تكريما، ولكل حظه من عطاء الرب، جل وعلا، من المنح الربانية التي ترد في ثنايا المحن الكونية، وأسندت الاستجابة إلى ضمير الفاعلين، على ما تكرر مرارا، في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير