تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذا السياق، فذلك آكد في بيان كمال عنايته، عز وجل، بأنبيائه، فعظم المنة من عظم من امتن بها على خاصة أصفيائه، ثم جاء الإطناب في معرض بيان تلك الاستجابة الربانية: وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ: فجاء الفعل مضعفا، مع كون الإنجاء قد وقع مرة واحدة بنبذ الحوت له، فذلك فعل واحد لم يتكرر، ولكنه لعظم قدره استحق المبالغة في المبنى الدال عليه، فهو من الآيات الكونية الباهرة التي لا تكون على هذا القدر والوصف إلا للأنبياء عليهم السلام، فكرامات الأولياء لا تعادلها، على ما تقرر في مباحث النبوات من القدر الفارق بين الآية والكرامة، وإن كان جنس خرق السنة الكونية المعتادة في كليهما حاصلا، ولكن لا يستوي خرق العادة لنبي، وخرقها لولي، فخرقها للنبي أعظم بداهة، لعظم قدر النبي فلا يلحق كل الأولياء بخيرية نبي واحد، فتكون صورة العناية الربانية في هذا الباب فرعا عن عظم قدر المعتنى به، وشتان النبوات وما تلاها من مراتب الصديقية والولاية والإمامة في الدين والشهادة والصلاح وما شئت من أوصاف الخير فكلها مهما بلغ صاحبها من الفضل لا تعدل مقام نبي واحد، وإذا كان أفضل من جاء بعد الصدر الأول لا يلحق بمنزلة الصحبة التي اختص بها خير طباق الأمة، رضي الله عنهم، لمجرد أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآمنوا به وسمعوا منه فكيف بمقام النبي نفسه إذا كان ذلك مقام أصحابه؟!. فمقامهم الرفيع ما هو إلا شعبة من أصل مقامه الرفيع صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك كان سبهم والطعن فيهم، كما يقع من أهل البدع ومن سار على طرائقهم من كل مبتغ القدحَ في هذا الدين من زنديق أو مرتد أو علماني مارق من الديانة أو كافر أصلي حاقد على من نشروا التوحيد في مصره فأبطلوا رسم ديانته الباطلة، كان ذلك السب الفاحش انتقاصا من قدره فالطعن في الفرع طعن في أصله بداهة، إذ لو صلح الأصل لصلح الفرع، فإن فروع النبي لا تكون إلا صالحة، بل إن ابن نوح لما كفر خص من أهله فخرج عنهم بمانع الكفر فليس أهل النبي إلا المؤمنون، فمن قدح فيهم فقد قدح فيه، فسبهم ما هو إلا ذريعة للطعن الخفي ثم الجلي في صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وقد يقال من جهة أخرى بأن الزيادة في مبنى الفعل إنما هي فرع عن تعداد صور العناية في الإنجاء، وإن كان الفعل في نفسه واحدا، فتكون الزيادة بتعدد حروف الفعل، مئنة من تعدد صور العناية به، عليه السلام، فعناية به إذ لم يهضمه الحوت، وعناية به بإنبات شجرة اليقطين عليه لتقي جسده من الهوام، وعناية به إذ آمن قومه بعد ذلك، مع قيام موجب العذاب من التكذيب: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، وتلك عند التأمل، أعظم عناية بالرسول، أن يرى ثمرة رسالته في حياته، مع أنه قد نجح في مهمته، وإن لم يؤمن به أحد، فمجرد إبلاغه الرسالة: منة من الرب، جل وعلا، أن أقدره على ما كلفه به، فكيف إذا آمن قومه، فـ: (أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)؟!، فأي عناية أعظم من ذلك، وهي من جنس عناية أعظم وقعت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الفتح فـ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، فللنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما اطرد في هذا الباب، من صور العناية العامة بكل الرسل، عليهم السلام، له منها أعظم قدر ووصف، فإن اشتركوا في الأصل، فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد باينهم بقدر فارق ظهر به فضله على فضلهم، وإن كان الكل فاضلا في نفسه، ولكن التفاضل حاصل بينهم وإن اشتركوا في أصله، وهو وصف النبوة فـ: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، فذلك من جنس ما باينوا به من دونهم من الصديقين والأولياء، فإنهم يشاركونهم خصال الخير، ولكنهم لا يرقون إلى منزلتهم فـ: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير