تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهو من الإطناب في بيان حال المصطفين من العباد برسم الرسالة أولا، فقدم ذكر الرجال لشرف جنسهم على جنس النساء، وإن لم يلزم من ذلك، كما تقدم في مواضع سابقة، فضل جميع الرجال على جميع النساء، بل هو تفضيل مجموع باعتبار الجنس على مجموع آخر، فالتفضيل من جهة الكل لا الجزء، أو العام لا الفرد، وقدم ذكرهم من وجه آخر، لاختصاصهم بالنبوة، فهي من وظائف الرجال، فأخر ذكر مريم، عليها السلام، من هذا الوجه، وإن قال بعض أهل العلم بنبوتها لنزول الروح القدس، عليه السلام، عليها، لما نفخ فيها، فحملت بالمسيح عليه السلام، والقول بنبوة النساء اختيار ابن حزم والقرطبي، رحمهما الله، استدلالا بنحو قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)، وقد حمله جمهور أهل العلم على الوحي الإلهامي فهو من قبيل قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا)، وقد أيد صاحب "التحرير والتنوير"، رحم الله الجميع، القول بنبوة البتول، عليها السلام، في هذا الموضع، والجمهور على خلاف ذلك فإن الروح القدس، عليه السلام، لم ينزل على مريم، عليها السلام، برسالة، وإنما نزل بآية كونية باهرة، وذكر مريم عليها السلام من جهة أخرى: استيفاء لشطري القسمة العقلية، فجنس الصلاح ليس حكرا على الرجال، بل للنساء منه نصيب عظيم فكم من صالحات فقن في صلاحهن أمما من الرجال، فيكون الاستيفاء لذكر الزوجين في هذا السياق، كما ذكر صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، جار مجرى آيات من قبيل:

قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).

و: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).

و: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

فاستوفى في كلٍ شطري القسمة العقلية، وذلك مئنة من كمال عدله، جل وعلا، إذ قدم الفاضل من الرجال على المفضول من النساء، فالعدل إعطاء كل ذي حق حقه، لا المساواة في الحكم مع التباين في الوصف والخَلق والخُلُق، فذلك هو الجور بعينه، وإن روج له من روج من دعاة إفساد النساء وزلزلة أركان البيوت التي انهدم كثير منها لما خرج كل جنس عن وصفه إلى وصف نظيره، فحصل الفساد بخروج كلٍ عن الفطرة الأولى، فذلك خروج عن ناموس الكون المطرد، وذلك بداهة، ذريعة إلى فساد الحال، فإن مادة صلاح هذا الكون: موافقة الحكم الكوني فلا يخرج الإنسان عن فطرته الخَلقية، وموافقة الحكم الشرعي فلا يخرج الإنسان عن حكم النبوات التي جاءت لتكمل فطرته الدينية والخُلُقية، فمتى خرج الإنسان عن مقتضى فطرة الكون أو الشرع فهو إلى فساد لا محالة، ولا يخلو الخروج عن سنة الكون من خروج عن سنة الشرع الذي جاء مكملا لسنة الكون، فلم يأمر بغير المألوف، ولم يكلف بغير المقدور، فإذا خرج كل جنس عن وصفه فأخذ حكم الجنس الآخر فتذكر المؤنث وتأنث المذكر، كما هو الحال في كثير من أهل زماننا، حتى وصل الأمر إلى حد الخروج عن الفطرة بارتكاب فواحش تشمئز النفوس من ذكرها، فقد بها كثير من البشر آدميتهم لخروجهم عن مقتضى سنة الكون، ففسد الكون بتبديل الشرع وإهمال أحكامه في الأفراد والجماعات واستعلن من استعلن بقبحه لما أمن حر سيف الشرع الحاسم لمادة فساد الدين والدنيا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير