تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجاء وصفها، عليها السلام، بالموصول تنبيها على الوصف الذي اشتقت منه جملة الصلة، تنويها بعفافها، فذلك من آكد صور العناية بها، عليها السلام، بإعلاء ذكرها، وتبرئتها مما رماها به يهود، وهم معدن الفواحش، فظنوا البتول، عليها السلام، على شاكلتهم القبيحة، وهي الصديقة البريئة من كل عيب، السالمة من كل سوء وقدح، فاستحقت الذكر في مواضع من التنزيل، بل باسمها قد نزلت إحدى سور الكتاب العزيز.

وتحصينها لنفسها الكريمة من الفواحش: التزام بأمر الشرع الحاكم، تفرع عنه المنة بأمر الكون النافذ، فالفاء في: "فَنَفَخْنَا": سببية إذ عطية الربوبية بالإكرام بالآيات الكونية الباهرة فرع عن التزام أحكام الألوهية، على ما اطرد من التلازم الوثيق بين الأمر الشرعي والأمر الكوني، فلازم امتثال الشرع: العناية الكونية فلصاحبه الأمن بمقتضى نص التنزيل: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، وهو أمن في الدنيا بطمأنينة القلب وإن خوف البدن أو قهر، وأمن في الآخرة قد بلغ غاية الكمال في سكنى جنان الرحمن تبارك وتعالى.

وقد جاء في آية التحريم صور أخرى من كمال التزامها عليها السلام بكلمات الرب، جل وعلا، الشرعية الحاكمة فقد: (صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، فصدقت بكلماته الشرعيات التي عطف عليها مبينها فهي الكتب المنزلة، وكانت من القانتين الطائعين، فصدقت الخبر المسطور، وامتثلت الحكم بفعل المأمور وترك المحظور، وبذلك استحقت درجة الصديقية، وذلك جار على ما اطرد مرارا من جمع أدلة الباب، فيظهر في كل دليل، وجه جديد يكتمل به الاستدلال، وذلك مئنة من بلاغة الكتاب العزيز الذي تلتئم آياته فتتعاضد ولا تتناقض، فبعضها يصدق بعض و: (لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).

وهي من جهة أخرى قد تحمل معنى الفاء الفصيحة، على تقدير: فنزل عليها الملك فكلمته وكلمها ..... فنفخنا، فيكون هذا الموضع مجملا قد بينه سياق سورة مريم، كما تقدم في مواضع سابقة، فذلك جار، كما تقدم مرارا، مجرى تفسير آي الكتاب المجمل بآيه المفصل.

وجاء النفخ، كما اطرد في هذا السياق: منسوبا إلى ضمير الفاعلين مئنة من التعظيم، فنفخ فيها الرب، جل وعلا، من:

الروح القدس الذي أضيف إلى الرب، جل وعلا، تشريفا، فذلك من تمام التنويه بذكره، عليه السلام، وفيه تنويه بذكرها، عليها السلام، فالنفخة التي سرت في جيب درعها قد صدرت من معدن القدس: الروح الأمين، فتكون: "من" على هذا الوجه لابتداء الغاية، فابتداء غاية صدور النفخة كان منه عليه السلام، فتحققت صورة السبب وخلق المسيح عليه السلام بالكلمة التكوينية النافذة.

أو من: روح المسيح عليه السلام، فالإضافة أيضا: إضافة مخلوق إلى خالقه في معرض التنويه بذكره، عليه السلام، فذلك، أيضا، من تمام العناية به وبأمه عليهما السلام، فهو روح من جملة الأرواح المخلوقة، التي صدرت من الرب، جل وعلا، صدور المخلوق من الخالق بالكلمة التكوينية النافذة، فبيان ذلك آية النساء وفيها: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)، وإنما خص بالذكر، لما تقدم من العناية بشأنه، فليست روحه الشريفة المخلوقة على هذه الطريقة العجيبة كبقية أرواح البرية. فـ: "من" هنا، أيضا، لابتداء الغاية، ولكنها ابتداء غاية الخلق لا النفخ كما في الوجه الأول، فدلالة: "من" واحدة وإنما اختلف المعنى تبعا لاختلاف المورد فمورد النفخ غير مورد الخلق.

والآية تحتمل المعنيين بلا إشكال، بل في كليهما من صور العناية بالبتول وابنها، عليهما السلام، ما يزيد المعنى بيانا وتقريرا.

ثم ذيلت الآية بمنة أخرة وهي صيروتها وابنها آية للعالمين:

وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير