تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالجعل هنا بمعنى التصيير بقرينة تعديه إلى مفعولين، وجاء معظما فذلك مئنة من عظم قدرة الرب، جل وعلا، البارئ لهذه الآية الكونية الباهرة في معرض التحدي لبني إسرائيل ولسائر الخلائق، فظهر بها من كمال قدرته على الخلق ما اكتملت به قسمة الخلق الرباعية: فآدم بلا أب أو أم، وحواء من أب بلا أم، والمسيح من أم بلا أب، وسائر الخلائق من أب وأم، فذلك آكد في بيان قدرته، جل وعلا، على الإيجاد، وحكمته في وضع الأسباب المنتجة لمسبَّباتها، فسنة النكاح الكونية هي الذريعة إلى استيلاد الذرية، فإذا شاء خرقها في معرض الإبداع كما في خلق آدم وحواء، أو الإعجاز، كما في خلق المسيح عليه السلام، فلا راد لمشيئته العامة النافذة.

وإلى طرف من هذا المعنى أشار ابن القيم، رحمه الله، بقوله في معرض بيان لوازم ربوبيته، جل وعلا، من خلق الأضداد على وجه يظهر به كمال قدرته وحكمته، إلى طرف من هذا أشار بقوله:

"ولهذا سبحانه خلق النوع الإِنساني أَربعة أَقسام:

أَحدها: لا من ذكر ولا أُنثى وهو خلق أَبيهم وأَصلهم آدم.

الثاني: خلقه من ذكر بلا أُنثى كخلق أَمهم حواءَ من ضلع من أَضلاع آدم من غير أَن تحمل بها أُنثى أَو يشتمل عليها بطن.

الثالث: خلقه من أُنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.

الرابع: خلق سائر النوع الإِنساني من ذكر وأُنثى.

وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته، وأَن الأَمر ليس كما يظنه أَعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أَن ذلك أَمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأَنه ليس للنوع أَب ولا أم وأَنه ليس إِلا أَرحام تدفع وأَرض تبلع وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد، ولم يعلم هؤلاءِ الجهال الضلال أَن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها محتاجة إِلى حامل لها، وأَنها من أَدل الدلائل على وجود أَمره فى طبعها وخلقها، وأَودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأَسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته ومملوك من مماليكه وعبيده مسخرة لأَمره تعالى منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وإِمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأَنها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف فى ذاتها ونفسها، فضلاً عن إِسناد الكائنات إِليها". اهـ

"طريق الهجرتين"، ص145، 146.

ففي ذلك رد دامغ على الملاحدة في الماضي وفي الحاضر، وفي كل عصر، فالأفكار واحدة، وإنما تعاد صياغتها في قوالب عصرية، إن صح التعبير، ولكل زمان منظروه، فليس "ماركس" ورفاقه ببدع من الرفاق!، بل قد سبقهم رفاق كثيرون نظروا للمذهب الإلحادي، ونسبوا كل الحوادث إلى الطبيعة الشاهدة بعجزها وفقرها على كونها حادثة مخلوقة فكيف خلقت، وهي المخلوقة، فلا يهب الفقير لفقير مثله شيئا، وإنما يرجع الاثنان في صدروهما إلى رب غني قادر فاعل بالإرادة والاختيار، خلق الكون بكلماته التكوينية النافذة، وشرع من الكلمات الشرعية الحاكمة ناموسا هو أكمل النواميس به تحفظ المقادير، فيصلح أمر الدنيا والدين، وذلك هو ناموس النبوات الحاكمة فهي، كما تقدم مرارا، أبرز صور عناية الرب جل وعلا بسائر الخلائق فهي الرحمة للموافق والمخالف.

وجاء وصفهما جميعا بالآية، لأن كل منهما صار آية بالآخر، كما أشار إلى ذلك الراغب الأصفهاني، رحمه الله، في "مفرداته"، وتابعه عليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك آكد في بيان عظم قدرة الرب، جل وعلا، وكمال اصطفائه لهما بجعلهما آية: نكرت تعظيما، فهي آية عظيمة للعالمين، فذلك مئنة من عموم هذه الرسالة دون غيرها من الرسالات، فإنه لا كتاب في الأرض الآن يشير إلى هذه الآية على النحو الصحيح بلا تحريف بغلو كغلو النصارى، أو جفاء كجفاء يهود، الطاعنين في النبوة، المتسلطين على أصحابها بالقول والفعل، لا كتاب في الأرض يشير إليها على الوجه الأصح والأليق بمقام النبوة المعصومة لعيسى عليه السلام والصديقية المحمودة للبتول عليها السلام: إلا الكتاب العزيز الذي جاءت به خاتمة الرسالات السماوية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير