تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في غيرها على جهة الاستقلال فتؤثر ولا تتأثر، ففعل الرب، جل وعلا، في كونه، فعل مريد قادر غني، فلا يعجزه شيء، ولا يفتقر إلى شريك يظاهر أو سبب يعاضد.

فـ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ: والمضارعة مئنة من التجدد والاستمرار، فنزول المطر، وإن حبس القطر في زماننا لعظم الذنوب التي طال شؤمها الزرع والبهائم!، نزوله آية كونية باهرة، ترى بالأبصار الظاهرة، وتدرك بالبصائر الباطنة، فالرؤية في هذا السياق تحتمل الرؤية البصرية والرؤية العلمية القلبية، ولا تعارض بينهما، بل الجمع بينهما مما يثري السياق، على ما اطرد مرارا، من توارد المعاني على السياق الواحد على نحو لا يقع به تعارض، بل كل معنى للآخر معاضد، فالبصر منفذ إلى القلب، فترى العين ثم يدرك العقل، وذلك أمر حاصل في الرؤية المحمودة والرؤية المذمومة، فترى العين الصورة المحرمة فتنفذ إلى القلب فتأسره وتضعف قوى الخير فيه فتقوى نوازع النفس الأمارة وهواتف الشيطان، لركود رافد الخير، فإن كانت الرؤية على الوجه المشروع بالرؤى الصالحة للآيات الكونية الباهرة والآيات الشرعية الحاكمة التي ترى بالعين وتتلى باللسان، فيستفيد منها القلب مادة إيمان نافعة، فيجري رافد الحياة في القلب بماء الحياة، فيثمر في القلب ثمار الإيمان الطيبة فهي الغذاء النافع لللروح الباطن، فالآيات في هذا السياق: تنصرف إلى الآيات الكونية الباهرة، ومنها إنزال المطر الذي عطف على الآيات المجموعة المضافة إلى الضمير العائد على الرب، جل وعلا، "آياته"، فذلك مئنة من العموم كما قرر أهل الأصول، فعطف المطر عليها وهو فرد من أفرادها: عطف خاص على عام، إطنابا في بيان وصف ربوبيته، تبارك وتعالى، فالآيات الكونية هي أثر صفات ربوبيته إيجادا وإفناء، وعناية بالخلائق بتيسير أسباب الحياة، ومنها: إنزال المطر، فهو أظهر أسباب الحياة، فماهيته هي معدن الحياة، كما في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)، فذلك من ربوبية إيجاده فجعل من ماهية الماء النازل، على حد الجعل الكوني النافذ، جعل منها كل الأحياء، فالماء عنصر أصيل في تكوينها، فحاجتها إليه لا تنقطع، وتخلله مسالك الأبدان سبب في استبقاء المهج، فله دور كبير في سائر عمليات الهدم والبناء في الجسد الحي الحساس.

فعطف نزول الماء في معرض تقرير ربوبية العناية بالخلائق على حد المضارعة المزيدة: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ، فالتنزيل مئنة من التكرار، فاستحضرت الصورة في مقام الامتنان بصيغة المضارعة، وصيغة التضعيف مئنة من تكرار نزول الرزق من السماء، فـ: "من" لابتداء الغاية، إذ السحاب فيها كائن، فأطلق السماء وأراد الحال فيها، فذلك من مجاز المحلية عند من يثبت المجاز، ومن ينكره قد يحتج بدلالة لفظ: "السماء" على كل عال فهو فوق الأرض كائن، والسحاب مما يعلو الأرض بداهة، وقد دلت القرينة اللفظية في نحو حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: "صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ ............. "، على إطلاق السماء على المطر، فنزول المطر من السماء قرينة حسية تفيد المخاطب علما ضروريا بإرادة المطر في هذا السياق، وكذلك نزول المطر من السحاب قرينة حسية تفيد المخاطب، أيضا، علما ضروريا، بإرادة السحاب في سياق الآية، ونكر الرزق تعظيما، فذلك مما يناسب تذييل الآية السابقة باسمي الرب جل وعلا: (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فحصل التناسب بين وصفي العلو والكبر فهما مظنة رؤية الآيات الباهرة ونزول الأرزاق الوافرة، ووفرة الرزق يناسبها تنكيره تعظيما، على ما اطرد من أغراض التنكير في كلام البلاغيين، فهو جار مجرى المشترك اللفظي لتعدد أغراضه، بل مجرى الأضداد لتعارض بعضها، فيفيد التعظيم تارة، ويفيد التحقير أخرى، ويفيد التكثير تارة، ويفيد التقليل أخرى، والسياق هو الذي يعين مراد المتكلم، فهو القرينة الفاصلة في هذا النزاع، فقرينة الامتنان

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير