الاستغراقية على التفصيل السابق، ذُو الْعَرْشِ: فذلك خبر ثان يناسب ما تقدم من رفعة الدرجات فهو صاحب العرش الذي هو أعلى الكائنات وسقف المخلوقات قد استوى عليه استواء يليق بجلاله، فلا يفتقر إليه، بل العرش وما دونه إلى أسفل السافلين له مفتقر، وبمدده باق مستمر.
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ: فذلك خبر ثالث، والإطناب في معرض الثناء على الرب، جل وعلا، بتعدد الأخبار، مقصد صحيح بل واجب، فله، جل وعلا، كما تقدم، من أوصاف الثناء ما لا يحصيه سياق، وإنما تعرف إلينا بما تطيقه عقولنا من أوصاف كماله التي أنزلها في كتابه وعلمها رسله، عليهم السلام، فلا يثبت خبر في هذا الشأن إلا بدليل من الكتاب أو السنة فهما مستند المستدل في كل مسألة دينية: علمية كانت أو عملية، ويتأكد ذلك أكثر في المسائل الخبرية التي لا يدركها العقل أو الحس، وأشرفها مسائل الإلهيات من الأسماء والصفات فتلك مما لا يثبت إلا بنص صحيح صريح. فيحمل على ظاهره المتبادر إلى الذهن، إذ من المحال أن يتعرف إلينا الرب، جل وعلا، بنصوص ظاهرها غير مراد، بل موهم قد يوقع في الضلال، فذلك من سوء الظن به، جل وعلا، بمكان.
فيلقي الروح، وإلقاءه الروح إما أن يكون من:
الملك الموكل بالنفخ في الأجنة، فذلك من إلقاءه الأمر الكوني النافذ بسريان الروح المخلوق في الجنين بواسطة الروح الملكي الموكل بالأرحام، فالروح يطلق على هذا الملك باعتبار تعلق أمر الروح: مادة حياة الأبدان، بأمر الرب، تبارك وتعالى، لذلك الملك بنفخ الأرواح وكتابة الأرزاق والآجال والمصاير.
فالعهد في "أل" على هذا التأويل يرجع إلى ملك الأرحام، فنفخته هي مادة حياة الأبدان.
وإما أن يكون من الروح القدس عليه السلام، فذلك من إلقاءه الأمر الشرعي في روع الرسول البشري بواسطة الرسول الملكي الموكل بأمر الرسالات، فيلقي الوحي، وهو مادة حياة الأرواح، من كلمات الرب، جل وعلا، الشرعية: أخبارا كانت أو أحكاما، في معرض الإنذار، وناسب ذكره هنا أن السورة مكية فالمخاطب آنذاك كفار مكة، وسياق الإنذار والتهديد بهم أليق، فيلقيه بواسطة الروح القدس عليه السلام.
فالعهد في "أل" على هذا التأويل يرجع إلى الروح القدس، عليه السلام، فنفثه في روع الأنبياء عليهم السلام هو مادة حياة الأرواح.
والسياق يرجح المعنى الثاني بقرينة انتهاء غاية الإلقاء إلى من يشاء الرب، جل وعلا، اصطفاءه من العباد، وهم الأنبياء عليهم السلام، فالروح الملقى هو: الوحي، وهو من أمر الرب، جل وعلا، لانقسام أمره إلى كوني وشرعي، والوحي النازل على قلوب الأنبياء عليهم السلام من القسم الثاني فلا ينزل الملك الموكل بالرسالات إلا بالأمر الشرعي، كما لا تنزل بقية الملائك المدبرات إلا بالأمر الكوني من إحياء وإماتة وقطر وعذاب ...... إلخ.
فمع صحة المعنيين إلا أن السياق قد رجح الثاني لما تقدم من القرينة اللفظية، فهو، كما اطرد مرارا، أصل في معرفة مراد المتكلم وحمله على الوجه الذي يريده إن احتمل أكثر من معنى.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[04 - 04 - 2010, 08:15 ص]ـ
ومن سورة الصافات، ومن سياق عناية آخر بالرسل عليهم السلام:
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ:
فذلك من دلالة العناية بالرسل عليهم السلام وهو أمر قد اطرد من قصصهم، فجرى مجرى التواتر، وقد أبقى الله، عز وجل، من ذكرهم وآثارهم وما وقع بالمكذبين بهم ما فيه عبرة لمن تدبر ونظر.
وصدر السياق بـ: "قد"، ولام القسم فهي دالة على قسم محذوف، وذلك جار على ما اطرد من إيجاز الحذف لدلالة المذكور على المقدر المحذوف، فذلك من بلاغة التنزيل بإيجاز المباني مع عدم الإخلال بدلالتها على المعاني، والقسم في معرض بيان فعل الرب، جل وعلا، بإجابة الدعاء: أبلغ في توكيد العناية بنوح عليه السلام، ونسب فعل النداء إلى ضمير الفاعلين على ما تقرر مرارا، من ملاءمة التعظيم لسياق الامتنان بإجابة الدعاء أو الإنجاء .... إلخ.
¥