تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وذلك النداء من المجمل الذي جاء بيانه في مواضع من التنزيل، كسورة نوح فإن فيها نداء واعتذارا، عما بدر من قومه، فقد دعاهم ليلا ونهارا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، وتلك وظيفة الرسل، عليهم السلام، فهم الهداة إلى الحق على جهة البيان والإرشاد، فليس لهم من أمر هداية التوفيق والإلهام شيء.

فذلك جار على ما تقدم مرارا من بيان مجمل التنزيل بمبينه.

وتفرع عن ذلك النداء بالدعاء: المسارعة بالإجابة لدلالة الفاء على التعقيب، فهي تفيد هنا: التفريع عما تقدم من النداء، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلازمه الإجابة في معرض العناية، والتعقيب، فذلك آكد في بيان المنة بالمسارعة في الإجابة، كما تقدم، والسببية، وهي قريبة الشبه في المعنى من التفريعية، فما بعدها مسبَّب عما قبلها، وذلك من جنس قولك: ما بعدها فرع عما قبلها، فدلالة التلازم العقلية في كلا الوجهين حاصلة.

وصدر الجواب بلام الابتداء، فذلك من التوكيد بمكان، فتلك لام ثانية غير لام القسم الأولى، وحذف المخصوص بالمدح والثناء لدلالة السياق عليه فلا يجيب الدعاء إلا الله، عز وجل، فالإجابة هنا: إجابة مخصوصة لنداء نبي كريم، فاستحق التعظيم بإيراد صيغة الجمع: "الْمُجِيبُونَ"، وتقدير المخصوص بالمدح بضمير جماعة المتكلمين: "نحن"، فلنعم المجيبون نحن، وبعض النحاة يقدر لـ: "نحن" خبرا من قبيل: فلنعم المجيبون نحن الممدوحون بوصف الإجابة لدعاء الرسل عليهم السلام، فذلك، آكد في تقرير المعنى، ويرد عليه أن فيه تقديرا زائدا، والأصل في الكلام: عدم التقدير، فهو ضرورة لا يلجأ إليها إلا عند تعذر استقامة المعنى بدونها ولا ملجئ هنا، فجملة: "نعم المجيبون": خبر مقدم، و: "نحن": خبر مؤخر، فلا تقدير هنا إلا للمخصوص بالمدح، بخلاف التقدير السابق ففيه تقدير المبتدأ والخبر، فيكون السياق قد احتوى جملتين: جملة مذكورة، وأخرى محذوفة مقدرة، وذلك هو الموضع الثاني من مواضع حذف الكلام بجملته كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب" بقوله:

"الثاني: بعد نعم وبئس إذا حذف المخصوص وقيل: إن الكلام جملتان نحو: (إنا وجدناه صابراً نعمَ العبدُ) ". اهـ

فالجملة الأولى: نعم العبد، والجملة الثانية: أيوب الممدوح، أو: هو أيوب، فيكون ضمير الفصل من باب التوكيد على تعلق وصف المدح بأيوب عليه السلام.

ثم جاء بيان الإجابة عقيب إجمالها:

وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ: فعمت المنة التي جاءت معظمة مزيدة مئنة من زيادة المعنى، على ما اطرد من زيادة المبنى بالتضعيف: (ونجيناه)، وزيادة المنة بنسبة الفعل إلى ضمير الفاعلين، عمت تلك المنة العظيمة: مبنى ومعنى، نوحا وأهله، وعموم الأهل: عموم معهود لا يستغرق جميع أفراده، فليس المراد به أهله من جهة النسب، بل سياق الإنجاء دال على إرادة أهل الإيمان، فهو الوصف الذي علقت عليه النجاة، فهم أهله، دون غيرهم، وإن كانوا من خاصة أهله كالزوجة والولد، كما تقدم في مواضع أخر، فذلك من العام الذي أريد به خصوص معهود.

وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ: فهو أبو البشر الثاني، وتلك منة عظيمة، إذ أهلك الرب، جل وعلا، البشر أجمعين انتصارا لنبيه نوح، عليه السلام، لما كذبوه وآذوه، فلآحاد المؤمنين كرامة عظيمة عند الرب، جل وعلا، فكيف بنبي كريم من أولي العزم من الرسل عليهم السلام؟!.

وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ: فيحتمل ترك الذكر بالثناء الجميل، فيكون من جنس لسان الصدق الذي سأله الخليلُ عليه السلام ربَّه جل وعلا، فـ: (اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ)، ويحتمل التضمين لمعنى الإنعام لقرينة التعدي بـ: "على" في سياق امتنان، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والسياق يحتمل كليهما فمعنى المنه فيهما حاصل، فالثناء الجميل من جملة الإنعام على صاحبه، بل ذلك من أعظم صوره، فهي نعمة باقية ما بقي في الأرض أثر للرسالات، فلا زالت الألسنة تلهج بالثناء الجميل بالصلاة والسلام على نوح وسائر النبيين: أعظم نعم الرب على الخليقة، فصلوات الله عليهم وسلامه أتم صلاة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير