تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

، وقيد المجيء بالحال: "بقلب سليم"، على تقدير: إذ جاء ربه سالما قلبُه من الشرك، فالحال، وإن كانت فضلة من جهة الصناعة النحوية في هذا الموضع فأركان الجملة بدونها قد اكتملت، إلا أنها عمدة في بيان المعنى المراد، فهي محط الفائدة، إذ ليس المراد المجيء مطلقا، فذلك أمر يشترك فيه كل البشر، فكلهم آتي الرحمن عبدا، وإنما المراد مجيء بعينه، هو المجيء الكامل الذي يليق بحال الأنبياء، عليهم السلام، فهم: صفوة الخلق، الذين اصطفاهم الرب، جل وعلا، بأشرف المناصب الإنسانية، منصب البلاغ برسم النبوة، ولكل من سار على طريقتهم من هذا الثناء نصيب، وإن اختصوا دون غيرهم بمنصب النبوة فهو مما لا يقبل الاكتساب، وإنما هو محض اصطفاء، كما تقدم، من الرب العليم الحكيم، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، والمجيء الكامل في هذا الباب هو: المجيء بقيد السلامة من الشرك، فكان الخليل عليه السلام على هذا الوصف، فهو إمام الموحدين، كما تقدم، فاختصاصه بسلامة القلب، جار، أيضا، مجرى التنويه بالذكر دون اختصاصه بذلك الوصف بل قد شركه فيه كل الأنبياء، عليهم السلام، وإن وقع التفاضل بينهم، بل يشركهم من وجه، وإن كان أدنى، الصديقون والشهداء والصالحون، فلكل منهم قدر عظيم من سلامة القلب من الشرك، على تفاوت بينهم في ذلك الوصف الجامع لا يعلمه إلا الرب الخالق البارئ لتلك القلوب، فيكون ذكره، أيضا، غير مخصص لعموم الثناء على بقية الموحدين، وإنما ذكر تنويها بتوحيده الذي قد بلغ الغاية من السلامة والنصح.

ومن صور هذا التوحيد الذي قام به على جهة اللزوم لقلبه فلا ينفك عنه ولو لحظة من عمره: من صور ذلك التوحيد اللازم: التوحيد المتعدي بالإنكار على قومه، غيرة لمعبوده الحق أن يشرك به غيره، فالموحد لا يكتفي بتوحيده الخاص بل غايته تحقيق التوحيد العام، بإقامة أركان الدين، ونشر علوم المرسلين، عليهم السلام، فلا يهنأ إلا إذا وافقت السنة الشرعية: السنة الكونية في الجريان، فينتظم أمر الكون بظهور حكم الشرع: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، فالنعمة الكونية لا تستجلب بمخالفة الطريقة الشرعية: فـ: "إن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته"، فأنكر الخليل عليه السلام على قومه:

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ: فذلك من الاستفهام الإنكاري التوبيخي على ما وقع منهم من الشرك، وقدم المفعول به: "إفكا"، والمفعول له: "آلهة"، على تقدير: أئفكا لأجل الألوهية لغير الله، عز وجل، تريدون؟!، فقدم المفعول به والمفعول له لكونه محط الفائدة في الإنكار عليهم، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فليس المراد توبيخهم على فعل التأله، فهو فعل جبلي قد فطر عليه الإنسان، بل قد شاركه فيه سائر الخلائق: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، فالنفس طالبة لحظها من الغذاء بالتأله، كما يطلب البدن حظه من الغذاء، فلكل غذاؤه الذي يلائم ما ركز فيه من القوى، فإن لم تتأله للمعبود بحق، جل وعلا، تألهت لغيره من المعبودات الباطلة.

وإمعانا في التوبيخ، جاء الإنكار بالاستفهام: فما ظنكم برب العالمين، فالظن مادة كلية مجملة: تحتمل الظن المذموم كما في هذا الموضع وكما في قوله تعالى: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، وتحتمل علم اليقين كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، وتحتمل الرجحان الموجب للامتثال كما اصطلح المتأخرون من أهل الفقه والأصول، فقرينة السياق هنا قد دلت على المعنى الأول، فأزالت الإجمال بتعيين المعنى المراد، فسياق الذم يوجب حمل الظن على الشك والتذبذب، فآل المعنى إلى التوبيخ ببيان سوء

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير