تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهاجر الخليل من "أور"، وتعدى الفعل بـ: "إلى" إلى الاسم الدال على الرب، جل وعلا، فتعلق فعل العبد في مقام التأله باسم الرب، جل وعلا، على ما اطرد من التلازم الوثيق بين الربوبية والألوهية، فامتثل أمر ربه الشرعي الذي أنجاه بأمره الكوني فـ: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، فالأمر هنا: تكويني تكلم به الرب العلي، جل وعلا، على وجه يليق بجلاله، بقرينة: (قلنا)، فجاء معظما بإسناده إلى ضمير الفاعلين فذلك مقام عناية بالخليل عليه السلام، بتأييده بآية كونية باهرة، دالة على كمال قدرة الرب، جل وعلا، بأن نزع من النار قوى الإحراق الذاتية، فأبطل بكلماته الكونية: أثر النار الملتهبة في التهام الأجساد، بل قد انقلب وصفها الذاتي إلى وصف ضدها من البرد والسلام، وهو أمر قد وقع بعد ذلك في ذبح إسماعيل عليه السلام فظهرت المنة الربانية بإبطال قوى القطع الذاتية في السكين، فذلك، أيضا، من صور العناية الكونية، بآية كونية من جنس آية إبطال قوى النار، فالأسباب تؤثر بالقوى الذاتية التي أودعها الرب، جل وعلا، فيها، وتلك القوى هي التي يتعلق بها التكليف الشرعي بتحصيلها واستعمالها فيما شرع الله، عز وجل، فقوى القطع في السكين قد تستعمل في ساحات الوغى لحسم وساوس صدور أعداء الرسالات، فذلك مما شرع الله، عز وجل، على جهة الإيجاب العيني دفعا أو الكفائي طلبا، وذلك أشرف ما تستعمل فيه السيوف المغمودة حاليا حتى إشعار آخر!، وقد تستعمل في ذبح الأنعام على جهة القربى، فمنها الواجب كهدي التمتع، والقران، والجبران لمن ارتكب محظورا من محظورات الإحرام، والنذر لمن نذره، والأضحية على قول من أوجبها كالأحناف، رحمهم الله، ومنها المندوب كالأضحية على قول الجمهور، ومنها المباح كتقطيع طعام أو ورق ... إلخ، ومنها المحرم كقتل النفس ظلما .... إلخ، فالآلة واحدة والفعل واحد، ومع ذلك تباينت الأحكام تبعا لتباين الاستعمال، فلكل وصف حكم يلائمه، والأسباب مع ذلك لا تؤثر إلا بمشيئة الرب، جل وعلا، فلا ينفذ السبب، وإن اكتملت قواه الذاتية إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، نفاذه بإرادته الكونية، فذلك وجه الإعجاز في آية تصيير النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام، وإمتناع السكين من قطع عنق إسماعيل عليه السلام، فقواها مكتملة، والمحل قابل لآثارها، ومع ذلك تعطلت تلك القوى فلم تنتج آثارها بالحرق والقطع، فقام السبب المشهود، وامتنع الأثر لتخلف السبب المغيب الذي إليه ترد كل الأسباب: كلمة الرب جل وعلا الكونية النافذة، فهو العلة الأولى التي لا علة وراءها، فكل علة بعده تفتقر إليه، فالعلة الناقصة لا تكتمل إلا باستيفاء شروط وانتفاء موانع، وأعظم الشروط: كلمة الرب جل وعلا بالإذن الكوني فتحرق النار وتقطع السكين بما أودع فيهما من القوى، وأعظم الموانع كلمة الرب جل وعلا بالمنع الكوني، فيبطل فعل النار والسكين وإن اكتملت قوى الحرق والقطع الذاتية فيهما، فلا تجدي الأسباب شيئا إن لم يقدر خالقها، جل وعلا، نفاذ تأثيرها وإنتاج مسبَّباتها.

فقال الخليل عليه السلام: إني ذاهب إلى ربي سيهدين، فجاء الحال: "سيهدين": على ما قرر بعض نحاة الكوفة من جواز تصدير الحال بالسين الدالة على الاستقبال كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، جاء الحال في مقام التعليل فهاجر الخليل فرارا بدينه، فالتذييل بالحال مئنة من كمال ثقته بالرب، جل وعلا، فسيهديه جزما إلى الطريقة الشرعية المثلى، وسيهديه بقدره الكوني إلى ما فيه صلاح أمره بحفظه من كل خطر محدق به، فذلك من عصمته، جل وعلا، الكونية لرسله عليهم السلام فأنجى الخليل من النار، وشق الماء للكليم فضرب له طريقا في البحر يبسا، ورفع المسيح وطهره، ونصر الأمين وأظهره، فدخل البلد الحرام وقد خفض رأسه تواضعا وخضوعا لربه، جل وعلا، الذي مكن له في الأرض فجعله وأمته أئمة يهدون بأمره لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير