ثم انتقل السياق بالفاء الفصيحة، فذلك من إيجاز ما قد علم بداهة، فتقدير الكلام: فوهب الذبيح إسماعيل عليه السلام فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ: فذلك من عظم الابتلاء فاستحضر الخليل عليه السلام الرؤيا حال حكايتها لعظم شأنها، وجاء ورود التكليف بالذبح، وهو من العظم والشدة بمكان، جاء رؤيا عناية بالخليل عليه السلام من ورود هذا التكليف الشاق حال اليقظة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فحال المنام أهدأ للعقل والقلب فيكون ورود التكليف ولو شاقا أيسر على المكلف.
وقابل إسماعيل عليه السلام ذلك بالامتثال فيا: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، فحذف متعلق الفعل على طريقة الحذف والإيصال، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتقدير الكلام: افعل ما تؤمر به، وذلك آكد في الامتثال بتعليق الفعل على الأمر الذي اشتقت منه جملة الصلة: "تؤمر"، فذلك آكد في الامتثال فهو أمر رباني لا مندوحة عنه، ثم جاء كمال التسليم والانقياد مع البراءة من الحول والقوة: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وقوله: "من الصابرين" آكد في الاتصاف بالصبر من صابرا فهو من جملة من اتصفوا واشتهروا بالصبر كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: فتلك فاء فصيحة أخرى تدل على محذوف قد علم بداهة بدلالة السياق، فتقدير الكلام: فأخذه وأضجعه وأسلما للأمر التكليفي بالامتثال والمباشرة.
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ: فجاء الإجمال في النداء ثم جاء عقيبه البيان بـ: "أن" التفسيرية: فجاء النداء مسندا إلى ضمير الجمع على ما اطرد من عظم المنة فقد جاء النسخ قبل وقوع الفعل عناية بالخليل عليه السلام فاستجابته قد محضت خلته للرب، جل وعلا، فخلص القلب ونصح من أي منازع، فسلمت شعبه من نزاع غير الرب، جل وعلا، ولو بالحب الفطري للولد، فالخليل لا يقبل مشاركة غيره له في قلب خليله، فجاءت العناية به برفع هذا التكليف الشاق على النفس بذبح الولد الذي رزقه بعد فناء الشبيبة وإقبال المشيب والتوغل فيه، فالمنة بالولد في هذه الحال تكون أعظم ونزعها يكون أعظم فكيف بأمر الأب بذبح الولد، فـ: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: فجاء التصديق بالعمل، فذلك شاهد لدخول العمل في حد التصديق فذلك من قبيل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ". فذلك مما يشهد لدخول الأعمال في مسمى الإيمان، ولو قيل بأنه التصديق، فالتصديق لا يكون بالقلب واللسان فقط، بل تصدق الجوارح ما قام بالقلوب من التصورات والإرادات.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ: فالبلاء يحتمل: الابتلاء المعهود، ويحتمل النعمة العظيمة بكشفه، كما أثر عن مقاتل، والسياق يحتمل كليهما، بل ذلك آكد في تقرير المنة، فالبلاء عظيم، فتكون المنة بكشفه عظيمة.
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ: فذلك من الإطناب بذكر صفة المنة، فنكر الذبح تعظيما فذلك من الوصف المعنوي ثم جاء الوصف اللفظي توكيدا له.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111): فذلك من كمال التنويه بشأن الخليل عليه السلام على ما اطرد في شأن نوح عليه السلام، فالأنبياء على طريقة واحدة من التوحيد، فجنس الثناء عليهم واحد لاتحادهم في الوصف الجالب له، وإن وقع بينهم التفاضل فهو في القدر الفارق، لا في قدر النبوة المشترك بينهم جميعا.
ثم جاء الإطناب بذكر نعمة أخرى فذلك جار على ما تقدم من كمال العناية بالخليل عليه السلام:
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ: فجاءت البشرى بإسحاق وجاءت الحال الأولى: "نبيا"، فالثانية: "من الصالحين": مئنة من عظم وصف ذلك النبي الكريم، عليه السلام، فذلك جار على ما اطرد من عظم النعمة بعظم أوصافها، فقد وصف بجملة من الخلال العظيمة وردت في مواضع من التنزيل، فجمعها يزيد المعنى بيانا على ما اطرد من طريقة الاستدلال المثلى بجمع أدلة الباب، فبها تكتمل الصورة، ويزول أي تشابه أو إجمال برده إلى محكمه ومبينه، فذلك مسلك أهل الحق لا أهل الضلال الذين يعارضون المحكم بالمتشابه ويعرضون عن المبين الرافع لإشكال المجمل فبه تزول شبهتهم وتبطل حجتهم.
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ:
فعلى تفيد الاستعلاء وهو مظنة الإحاطة وذلك أبلغ ما يكون في العناية كما قرر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.
والله أعلى وأعلم.
¥