تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فجاء التوكيد لبيان اشتراك إلياس، عليه السلام، مع الرسل المتقدمين في وصف الرسالة، فقد استقلوا بوصف زائد هو أنهم من أولي العزم من الرسل، فرتبوا تبعا لزمن بعثتهم، فبعث نوح فإبراهيم فموسى، عليهم السلام، فليس الترتيب تبعا للأفضلية، فإن الخليل أفضل الثلاثة فالكليم فنوح، عليهم السلام جميعا، فجاء التوكيد دفعا لتوهم اقتصار وصف الرسالة عليهم لشهرتهم، فقد شركهم فيه إلياس عليه السلام، فإنه، على جهة التوكيد، لمن المرسلين، فجاء التوكيد باسمية الجملة واللام المزحلقة، فضلا عما اطرد من دلالة "من" في هذا السياق ولها دلالة بيانية جنسية، على التوكيد، فذلك أبلغ في تلبسه بوصف الرسالة من الإخبار الصريح بنحو: إن إلياس رسول، وعلامة ذلك: إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ: فدعاهم إلى التقوى على سبيل الزجر بالإنكار والتوبيخ لما وقعوا فيه من الشرك الصريح، وحذف معمول التقوى مئنة من العموم.

أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ: فاطردت شدته في مقام الغيرة على الدين، فذلك بيان لإجمال قوله: "ألا تتقون"، فجاء الفصل، فلا عاطف، للتلازم الوثيق بين المجمل ومبينه، فاستفهم في مقام الإنكار والتوبيخ، ونكر المعبود: "بعلا" تحقيرا لشأنه، وجاء الشطر الثاني في معرض المفاضلة: وتذرون أحسن الخالقين، فلا مفاضلة أصلا، وإنما هو من باب التنزل مع الخصم فذلك من قبيل قوله تعالى: (آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)، ولا خير في معبوداتهم أصلا، فـ: "خير" منزوعة الدلالة، وإنما جاء السياق على سبيل المفاضلة تنزلا مع الخصم باستنطاقه بالحجة المبطلة لمقالته، فأي عاقل، سيجيب وإن كان مخالفا: الله خير من جماد لا يضر ولا ينفع، فكذلك الشأن هنا: فكيف يعبد أولئك بعلا ويذرون أحسن الخالقين، وفي وصف الرب، جل وعلا، بالخالقية على جهة التفضيل المطلق، تعريض ببعل فلا يملك لنفسه نفعا أو ضرا، فضلا عن أن يملك لغيره بل إنه عاجز عن خلق ذرة في الكون، بل هو المخلوق لغيره، فكيف يسوى الخالق بالمخلوق، بل بالمخلوق الجامد فليس له من وصف الخلق شيء ولو بتحويل المادة من صورة إلى صورة، فـ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)، وهذا شأن كل من فسد قياسه فسوى بين المخلوق والخالق، بل قدم المخلوق على الخالق، جل وعلا، فيعم ذلك الإنكار كل من قدم المخلوق على الخالق في عبادة ظاهرة من ركوع أو سجود، أو عبادة باطنة، كسائر صور شرك الطاعة، وأظهرها طاعة طواغيت البشر ممن نازعوا الرب، جل وعلا، منصب التشريع، وهو كما تقدم في مواضع، من أخص أوصاف الربوبية، فالتدبير الشرعي أحد شطري التدبير الرباني، فعن وصف حكمته البالغة وعلمه المحيط، جل وعلا، قد صدر، فمن ذا الذي يزعم أن له حكمة أو علما يضارعان حكمة وعلم الرب، جل وعلا، وهل ذلك إلا عين المنازعة للرب، جل وعلا، وصف كماله الذاتي، وذلك هو الطغيان بعينه، فمن أطاع مختارا لمن فعل ذلك فقد اتخذه اتخاذ قوم إلياس لبعل، فذلك بعل محسوس، وهذا بعل معقول، والكلام جار على تحرير المناط لا تحقيقه في أفراد بعينهم، فليس ذلك مما تنصرف إليه الهمم، فإقامة الحجة الرسالية أمر موكول إلى من رسخت قدمه في الديانة من العلماء الذين أفنوا أعمارهم في هذا الشأن، فليس ذلك لكاتب أو قارئ، والشاهد أن بعلا وصف عام لا يقتصر على بعل دون بعل!، بل هو عام في كل بعل، فبعل محسوس كالصنم المنصوب، وبعل معقول كالشرع الموضوع، ودرهم ودينار وخميصة وزوج وولد وهوى متبع ..... إلخ، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص اللفظ.

اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ: ثم جاء عطف البيان إمعانا في الإنكار عليهم، بإظهار الاسم الكريم: "الله"، فصدر بوصف الخالقية فهو من أخص أوصاف الربوبية، كما تقدم، فذلك خصوص، وثنى بالاسم الكريم وأسند إليه وصف الربوبية على جهة العموم، فخص بوصف يظهر به عجز آلهتهم ثم ثنى بعموم وصف الربوبية الجامع، وأطنب ببيان عموم ربوبيته جل وعلا للأولين والآخرين: رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.

فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ: على جهة التعقيب العرفي، فلما يقع عذابهم بعد، ثم استثنى الفرقة الناجية من أهل الإخلاص فهم العباد على رسم الانقياد الاختياري لأمر الرب العلي، جل وعلا، وَترَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ: على ما تقدم من الثناء برفع الذكر فهو كما تقدم وصف عام في كل المرسلين، عليهم السلام، فهم الصفوة المختارة الذين أثنى عليهم الرب، جل وعلا، عليهم في التنزيل وأجرى ذكرهم الجميل على ألسنة عباده المؤمنين.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير