تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجاء الإسراء من البيت الحرام إلى بيت المقدس الذي بارك الرب، جل وعلا، حوله، فالبركات فيه ظاهرة، فجيء بصيغة: "فاعل" مضافة إلى ضمير الجمع: (باركنا)، مئنة من المبالغة في الدلالة على تلك البركات، فذلك جار على ما قرره الصرفيون من دلالة صيغة: "فاعل" على المبالغة والتكثير كضاعف الشيء فهو بمعنى ضعَّفه بتضعيف العين فذلك نص في التكثير لدلالة: "فعَّل" المضعف عليه كما أشار إلى ذلك صاحب "شذا العرف" رحمه الله، فالآية قد حوت من الآيات والبركات العظيمات ما يدل على كمال عناية الرب، جل وعلا، بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تلك الرحلة الخالدة.

وفيها، كما قرر أهل السير، دليل لطيف على انتقال القيادة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، فقد انتقلت النبوة من الفرع الإسحاقي إلى الفرع الإسماعيلي فصار أحق بالقيادة، ومعيار ذلك: بيت المقدس، فإنه لا يبقى إلا في أيدي الموحدين برسم الرسالة، فلا نسب بين الرب، جل وعلا، وبين أتباع الرسالة الخاتمة، ليلقي إليهم بمقاليد قيادة البشر، فتكون بيت المقدس تحت إمرتهم، وهم مفرطون في الوحي مكذبون له بلسان الحال، بل قد صرح بعضهم بالتكذيب بلسان مقاله الفاحش، كما تقدم من بيان حال زنادقة زماننا الذين صاروا من سيف الشريعة في مأمن، فالحكم دائر مع بيت المقدس وجودا وعدما، فمتى كان سير على منهاج النبوة فتحرير لبيت المقدس وقيادة للعالم من جديد، فقد ظهر فيه الفساد والخبث ولا ينفي ذلك إلا كير النبوة المعزولة عن منصب القيادة حتى إشعار آخر!، ومتى كان عدول عن منهاج النبوة وتخبط في بنيات الطريق من مناهج وضعية: علمانية وليبرالية وشيوعية ورأسمالية ..... إلخ، فذلة ومهانة بسقوط بيت المقدس في أيدي أذل الخلق وأهونهم على الرب، جل وعلا، فذلك من عظم عقوبته، جل وعلا، للأمة المفرطة في القيام بأمر ما استحفظت عليه من الوحي المعصوم، فلم تقم بمعانيه، بل قد هجرت تلاوة مبانيه، فلم تقم بحروفه أو حدوده، فأنى لها أن تستعيد بيت المقدس كما استعاده الخليفة الراشد عمر، رضي الله عنه، من صفرنيوس برسم: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا بغير الإسلام أذلنا الله"، وكما استعاده القائد الناصح صلاح الدين، رحمه الله، مقدم بني أيوب الذي فرج الرب، جل وعلا، به الكروب وشفى به الصدور من عباد الصليب الذين استباحوا البيت المقدس وأهله.

فمن يشفي الصدور من يهود فهم العقوبة الربانية الكائنة الآن على ما كان من تفريط في أمر الدين فأزيل عن حكم السياسة بإسقاط الخلافة الجامعة لأشتات الدول والممالك الإسلامية، وأزيلت الشريعة عن حكم الناس فيما يجد لهم من الأقضية في الدماء والأموال والفروج وسائر الأمور، ورقت الديانة، فزالت هيبة الوحي من قلوب الخاصة والعامة، الجماعات والأفراد إلا من رحم الرب، جل وعلا، ولا رجوع للمسرى إلا بمراجعة رسالة من أسرى به صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وسكت النص عن آية المعراج، فقد دل عليها الشطر الثاني من الوحي المعصوم، فاستفاضت أخبارها في دواوين السنة المطهرة، فتمت المنة واكتملت المنة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفيها من الإعجاز ما ليس في آية الإسراء، وإثباتها جار على ما تقدم، من التجويز العقلي، فلا محال في خبر النبي، فالمعراج ابتداء: جائز، فلا يوجبه العقل ولا يحيله، حتي يرد المرجح للإثبات أو النفي، ولا يكون الترجيح في هذا الباب إلا بخبر صادق، فترجح جانب الإثبات بورود الخبر الصادق عن وقوعه فصار الإيمان به واجبا، فمرد الأمر، كما تقدم، إلى إثبات صدق دعوى النبوة، فإن ثبت فما بعده فرع عنه، ولذلك كان من كمال عقل وسداد أمر الصدر الأول، خير طباق الأمة، وكل من سار على طريقتهم في الاستدلال، الاستدلال على صحة النبوة، فإذا ثبتت فالتسليم الكامل للأخبار تصديقا وللأحكام تنفيذا، لمكان العصمة الذي لا يتطرق إليه كذب أو خطأ في الخبر، أو ظلم أو جور في الحكم، فأخبار النبوات، كما تقدم، أصدق الأخبار، وأحكامها أعدل الأحكام، فمتى صح النقل سلم العقل، فالتابع لا يتقدم بين يديه متبوعه بداهة، فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير