تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أعظم لعالميتها فـ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، فجاء التوكيد رافعا لاحتمال المجاز، فـ: "أل" هنا على أصلها لاستغراق ما دخلت عليه لقرينة السياق، ولقرينة عالمية الرسالة، فالقرينة الخاصة والعامة شاهدة بعالمية الرسالة الخاتمة، بل لو قيل بأنه هدى لبني إسرائيل ولغيرهم، فالكتاب الصحيح السالم من التبديل، قد دل بما فيه من البشارات التي كتمها يهود، على الرسالة الخاتمة، فلو صدقوا خبره لآمنوا بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله سلم، ولو امتثلوا حكمه، لأنفذوا حد الرجم، كما في سبب نزول: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، فيكون حكمهم مواطئا لحكم الكتاب الآخر، ولكنهم بدلوا ما استحفظوا، فتحريفهم قد عم الخبر والحكم معا، فالكتاب النازل على موسى عليه السلام هو بعينه الهدى لبني إسرائيل، فالإخبار عنه بأنه عين الهدى مئنة من المبالغة في تقرير العناية والمنة بالوحي، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو الهدى لهم دون الكتاب الذي كتبه الأحبار بعد ذلك، فـ: (وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)، فقد زيد فيه ونقص تبعا لأهواء وأذواق الكتبة، وتحريف العهد القديم، أمر قد اشتهر وتواتر، بل قد أثبته النقد التاريخي الحديث، كما تقدم في مواضع سابقة، فلا يستند إلى مخطوطات موثقة، ولا إسناد له في السطور أو الصدور، فلا حفظة له ولا نقل مكتوب يوثق به فقد وقع التبديل في الطبقات الأولى، وعدمت الأصول الموثقة التي يرجع إليها عند وقوع الاختلاف، وهو أمر قد وقع للأناجيل، بل شأنها أعظم!، لما علم من تساهل النصارى في نسخ الأخبار والأحكام معا، فلا يكاد الناظر في ملتهم يحكي شرعا مطردا لتوالي الحذف والإضافة تبعا لأهواء أو أذواق أو رؤى الآباء والرهبان!، فذلك مما امتازت به الأمة الآخرة، فإذا كانت المنة بالهدى على جهة التعظيم بالتنكير، ثابتة في حق بني إسرائيل فثباتها في حق الأمة الخاتمة أعظم، فالنبوة أشرف أجناس النعم، كما تقدم مرارا، وللأمة الخاتمة منها أشرف الأفراد: الرسالة الخاتمة المحفوظة بحفظ الرب، جل وعلا، فذلك أمر قد أخبر به الوحي: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وشهد به الحس، فلا أحد إلى يوم الناس هذا يستطيع تبديل حرف من حروف الكتاب العزيز المنقول إلينا بلسان قريش بقراءاته المتواترة المعروفة.

والشاهد أن التوراة بأخبارها وأحكامها التي امتازت بالشدة والجلال، كانت هدى لبني إسرائيل، فالتنكير، كما تقدم، مئنة من التعظيم، فلا أعظم من نعمة النبوة، فالعناية بها أعظم صور العناية، فبها فضل بنو إسرائيل على عالمي زمانهم: (من العالمين)، فضلا عن دلالة اللام في: "لبني" على الاختصاص، فذلك آكد في تقرير المنة، فهو من قبيل قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)، بخلاف العالمين في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، فالعموم هنا مستغرق محفوظ لما تقدم مرارا من عالمية الرسالة الخاتمة.

ثم جاء البيان والتفسير، على وجه لطيف أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذيلت الآية بأعظم مقررات الكتاب: التوحيد، فيكون ذلك من بيان العام بالخاص، فنص على التوحيد لكونه الأصل لما بعده فهو زبدة الرسالات السماوية، فمحله من الديانة: محل القلب من الجوارح، فإذا صلح العقد القلبي: صلح ما بعده من الإرادات والأقوال والأعمال، وإذا فسد: فسد ما بعده فلا يجدي تصحيح الفروع شيئا إن لم يصح الأصل الأول، ففروع بلا أصل صحيح داخلة في قوله تعالى في محكم التنزيل: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).

ثم جاء التذكير بصورة أخرى من صور العناية الربانية بإنجاء المؤمنين مع نوح عليه السلام في الفلك، وخروج الذرية من صلب نوح، عليه السلام، فحفظ بنسله النوع الإنساني فهو أبو البشر الثاني:

ذريةَ: على الانتصاب بالاختصاص أو النداء، فذلك آكد في تقريعهم لما وقع منهم من تقصير بتذكيرهم بالعناية بإنجاء أصولهم، فذلك آكد في تقرير معنى العناية من قولك في غير التنزيل: ذرية نوح، وإن كانوا كذلك بالفعل، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، والتعريض بتقصيرهم حاصل بالتذييل بـ: (عبدا شكورا)، فوصفه بالعبودية الخاصة والشكران على حد المبالغة فيعم أعمال الباطن والظاهر، ففيه نوع حض لهم على امتثال طريقة نوح، عليه السلام، في العبودية والشكران، وفيه تعريض آخر، أشار إليه صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالنكير متوجه من باب أولى إلى من خوطب بهذا التنزيل، ففساده أعظم بوقوعه في الشرك الصريح، وهو متوجه إلى كل مقصر في كل عصر ومصر سواء أكان تقصيره تقصير الكافر الأصلي، أم المرتد، أم الفاسق الملي، أم مرتكب الصغائر ..... إلخ من أجناس المقصرين فلكل نصيبه من التقريع بقدر خروجه عن منهاج النبوة الكامل.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير