تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فليس لها بأهل، فإذا كان هذا حال آحاد العقلاء، فكيف بعقل النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟!، فاختياره بداهة لن يقع إلا على أعظم أصحابه، وأشجعهم قلبا، وأذكاهم عقلا، وآمنهم على سره، واصدقهم نصحا له في الظاهر والباطن، وقل ما شئت من خصال الصدق والإخلاص في موضع لا يصمد له إلا آحاد الشرفاء، فرمي الصديق، رضي الله عنه، بأي نقص في هذا الموضع، لما قد يتوهم، بادي الرأي، من معنى الحزن، قدح في عقل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ لم يحسن اختيار الرفيق، وذلك ما التزمه ملك المغول الذي صنف له المخذول: "منهاج الكرامة"، فنقضه ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة"، فصرح باللازم لما قاس الأمر بعقله، فلا يصنع ذلك إلا قليل العقل، عديم السبر لأحوال الناس فضلا عن أقرب أصفيائه، فصاحبه أربعين سنة أو يزيد، ولم يعلم من حاله الجبن والخوف إلا في تلك اللحظة فنهاه زاجرا: لا تحزن!، وإذا فسد قياس العقل أتى صاحبه بالعجائب، والشاهد أن ذلك التفاوت في نزول السكينة من أظهر الأدلة على تفاوت الإيمان في القلوب، فالإيمان، كما قرر أهل السنة، يشمل الظاهر والباطن، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بل بالفتور عن الطاعة أو تعاطي فضول المباح، والثناء على الفاضل في هذا الموضع لا يلزم منه القدح في المفضول، بل كلاهما قد بلغ مرتبة رفيعة لا مطمع لمن بعدهما في بلوغها، فمرتبة النبوة الخاتمة مرتبة لا تقبل الشركة ولو كان الشريك: ثاني الخليلين، إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام، ومرتبة الصديقية العظمى لا تقبل الشركة ولو كان الشريك الوزير الثاني: الفاروق الملهم: عمر، رضي الله عنه، وإنما التفاوت في النصرة والتأييد، كما تقدم، فرع عن التفاوت في المراتب الإيمانية.

إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ: فذلك بدل مبين لإجمال حالهما حال خروجهما، ففيه مزيد بيان، لما أجمل ابتداء، فحصل بالإجمال التشويق، ثم جاء الإطناب فذلك آكد في تقرير المنة الربانية والعناية الإلهية بالمهاجرين المخرجين، و: "أل" في الغار: عهدية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتشير إلى غار بعينه، هو الغار الذي لجأ إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر الهجرة، ثم جاء البدل الثاني، على قول حكاه ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب"، فحصل به مزيد بيان وتقرير للمنة الربانية، فذلك جار على ما تقدم من الإطناب تذكيرا بنعمة الرب، جل وعلا، وعنايته بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ: فالمضارع مئنة من استحضار صورة قد انقضت، فـ: "إذ" ظرف لما مضى من الزمان، فمجيء المضارع بعده خروج عن المعهود من كلام العرب، ولا يكون ذلك إلا لنكتة، فالصورة مظنة الاستحضار في معرض تقرير المنة، كما تقدم، فأمر صاحبه على جهة الإيجاب المشوب بالرفق والإرشاد، لا تحزن، وذيل الأمر بعلته فذلك أدعى إلى امتثاله: إن الله معنا، فجاءت العلة مفصولة بلا عاطف لشبه كمال الاتصال بينها وبين المعلول، كما تقدم مرارا، فتلك من المعية الخاصة، بل من أخص أنواعها فهي معية تختص بأفراد بعينهم، فحدها حد المعية في نحو قوله تعالى: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، فذلك من آكد صور العناية بهما، وجاء الضمير دالا على المجموع مستغرقا لكليهما، فذلك مظنة التأييد والتثبيت، وفيه، أيضا، إبطال لزعم المفترين على الصديق، رضي الله عنه، ما برأه الله، عز وجل، منه من الجزع والخور، فلا يستحق المعية في هذا الموضع إلا الأكابر، فالرب، جل وعلا، لا يصطفي لمعيته الخاصة إلا الأكابر، ومعيته، عز وجل، في هذا الموضع، من أوصاف فعله، فيضعها حيث شاء بحكمته، فلا يضعها إلا في المحل القابل لها، ومن أولى بمعيته نصرة وتأييدا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصديقه أبي بكر رضي الله عنه؟!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير