تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد امتثل الصديق، رضي الله عنه، للأمر، فكان الحزن، كما يقول ابن حزم، رضي الله عنه، قبل ورود النهي: مستحبا، إذ ما حزن إلا إشفاقا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك مما يحمد المرء عليه استحبابا بل وجوبا في مواضع، فإنه لازم الحب له صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو من أركان الدين إذ ذلك من مقتضيات الشهادة الثانية، فالشهادة له بالرسالة: شهادة بالصدق والأمانة، فهو أعلم الناس بربه، جل وعلا، وأصدق الناس نصحا، وأفصحهم بيانا، وكل ذلك مظنة الحب بداهة فمن ذا الذي يبغض من بعثه الرب، جل وعلا، ليهديه بأصدق خبر وأعدل حكم وأوفى بيان، فلا يتصور دين إلا بحبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يتصور حبه إلا بتعظيم قدره، وامتثال أمره ونهيه، فسرعة الامتثال برسم: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ): مئنة من كمال الإيمان، وضدها من التكاسل والتثاقل برسم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ): مئنة من نقص الإيمان، فيزيد وينقص، كما تقدم، تبعا لزيادة التعظيم لرسالته تصديقا بخبرها وامتثالا لحكمها، فذلك لازم التعظيم الوثيق، فمن المحال أن يكون الباطن على رسم التعظيم، ولا تظهر آثار ذلك في الخارج: فيبادر المعظم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لمكان العصمة، إلى تصديق خبره وامتثال حكمه، فالتفاوت في محبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم يظهر أثره في التفاوت في الاستجابة له نبيا معصوما مؤيدا بالوحي، ولذلك كان سبه أو القدح فيه أو لمزه ولو من طرف خفي، كما يقع من كثير من زنادقة هذا الزمان ممن يصفون شريعته بالرجعية والهمجية والتوحش ..... إلخ، كان كل ذلك ناقضا صريحا للديانة، وإن لم يعتقده قائله، فحاله حال المستهزئ الذي لا يعتقد ما يجري على لسانه من كلمات الاستخفاف والتنقيص، فيكفر بها وإن اعتذر: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، فكذلك القدح في شخصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو في رسالته أو في أمر من أمور شريعته، يعلم القادح يقينا أنه من شريعته، فلا عذر له بجهل أو تأويل، فذلك مئنة من انتفاء حبه وتعظيمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من القلب، فينتقض عقد إيمان فاعله، فقد نطق بالكفر مختارا غير مكره، فمحال ألا يكون ذلك صادرا عن باطن يماثله، على ما تقرر مرارا، من التلازم الوثيق بين الظاهر والباطن، والشاهد أن الصديق ما حزن إلا تحقيقا لهذا الركن الركين من الدين، فكان حزنه خوفا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: شاهد عدل من الظاهر لما يعتمل في باطنه من قوى الإيمان الفاعلة التي حملته على مرافقة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تلك الرحلة، فتجشم من الصعاب والمخاطر ما تجشم، فحاله مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حال الوزير، فهو بين يديه ومن خلفه برسم: "أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك"، وهل يفعل ذلك إلا محب صادق قد تمحض حبه من شوائب النقص، فلا حظ لنفسه مع محبوبه، فـ: "إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قُتِلْتَ هلكت الأمة". يقول الملهم عمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر". اهـ

فتلك حاله قبل ورود النهي: فهي حال كاملة شريفة، لا حال نقص، كما يزعم المفتري، ثم جاء النهي، فانقلب الحال لورود التكليف بضده، وذلك، أيضا، من صور المحبة الصادقة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمحب يسارع دوما في امتثال أمر محبوبه ونهيه، فكان الصديق، رضي الله عنه، على رسم كمال المحبة والإيمان: حال حزنه وحال عدمه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير