تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

التنزيل الذين: (تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، فأيده الرب، جل وعلا، بتلك الجماعة المؤمنة فـ: (أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فذلك من تمام نعمته، جل وعلا، على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فجاءت: "لو" الوصلية في معرض تقرير المنة الربانية، فهي مئنة من المبالغة، وذلك أليق بسياق العناية بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنجاه من كيد أعدائه فأراد غورث بن الحارث قتله فعصمه الرب، جل وعلا، منه، كما في مسند أحمد من حديث جابر، رضي الله عنه، وفيه: "قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ فَرَأَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قَالَ كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ"، وأراد بنو النضير قتله لما آوى إلى جدار من جدرهم، فأعلمه الروح الأمين، عليه السلام، فنصره الرب، جل وعلا، عليهم، فقذف في قلوبهم الرعب: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)، فـ: (لَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ)، وتربص به المشركون الدوائر فكان الأصحاب، رضي الله عنهم، حراسا على بابه، فعصمه الرب، جل وعلا، عصمة البلاغ، فـ: (أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وأرادت يهودية من أهل خيبر قتله بالسم، كما في سنن أبي داود، رحمه الله، من حديث جابر، رضي الله عنه، فأنطق الله، عز وجل، له الذراع، فلم يؤثر السم في جسده الشريف إلا آلاما احتملها، حتى بلغ رسالة ربه، جل وعلا، فأراد الله، عز وجل، أن يجمع له منزلة الشهادة إلى منزلة الوحي: (مَازِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي)، فليس ذلك من خذلانه أو إسلامه إلى عدوه، بل هو من إكرامه بعد أن بلغ وأدى.

ومكروا به ليخرجوه اضطرارا على جهة النفي، فخرج امتثالا لأمر الوحي، رغم أنوفهم، وكان خروجه إلى حين فـ: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)، فتلك من الآيات التي نزلت في سفر الهجرة، فالوعد حق، والخبر صدق، فخرج صلى الله عليه وعلى آله وسلم مهاجرا برسم: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)، ثم دخل فاتحا برسم: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).

فـ: يَمْكُرُونَ: على جهة المضارعة مئنة من التجدد والاستمرار، وذلك أمر حاصل إلى يومنا، فما زال أعداؤه يمكرون به بالقدح في شخصه الكريم تارة، وبالقدح في دينه الحنيف أخرى، وبفتنة أتباع الرسالة ثالثة فحالهم حال: (الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)، وفي مقابل مكرهم: وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ: فذلك من كمال وصف الرب، جل وعلا، أن كان جزاؤهم من جنس عملهم، وشتان مكر الرب: فهو مكر عدل يليق بجلاله، ومكر العبد فهو مئنة من فساد النية والعمل، فالاشتراك في المعنى الكلي المطلق لا يلزم منه الاشتراك في المعنى الجزئي المقيد، فلكل وصف يليق بذاته كمالا أو نقصانا، فللرب، جل وعلا، من كمال الوصف ما يليق بكمال ذاته القدسية، فوصف نفسه بالمكر على جهة التقييد بالكافرين، إذ الإطلاق في موضع التقييد قد يوهم التنقيص، فالمكر على جهة الإطلاق يحتمل الكمال والنقص، فوجب تقييده بالصورة الكاملة الثابتة لله، عز وجل، على الوجه اللائق بجلاله، فـ: يَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، فذلك التقييد في الوصف بوصف الكمال، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ: فأظهر في موضع الإضمار مئنة من كمال عنايته بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد مكر له في مقابل مكرهم به، وهو على جهة التسمية المقيدة بوصف الخيرية: خير الماكرين، فلا يطلق الاسم في حقه، تبارك وتعالى، كما لا يطلق الوصف، لاحتمال كليهما ما يتنزه عنه الرب، جل وعلا، من وصف السوء، فوجب تقييدهما بوصف الخير اللائق بكماله، تبارك وتعالى، المطلق.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير