تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ: فانقاد له الكون قهرا بإرادته الكونية النافذة حتى صح مجيء الحال مصدرا، على جهة المبالغة، على وزان: جاء زيد ركضا، مئنة من سرعة وشدة ركضه، كما قرر ذلك النحاة، فذلك من آثار أوصاف جلاله في كونه إذ له القدرة النافذة في كل الكائنات، فالكون كله: حيه وجماده، أرضه وسماؤه، له منقاد بوصف إرادته الكونية، وإن خالف من خالف من المكلفين وصف إرادته الشرعية.

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم:

فقضاهن: قضاء كونيا نافذا، فضمن القضاء معنى الخلق، مع ما فيه من معنى النفاذ والقهر، فالقضاء مظنة النفاذ، فمنه تستصدر الأحكام الكونية الجزئية. فضلا عما فيه من معنى الإيجاد الإبداعي، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فاجتمع في اللفظ معاني: الخلق والإبداع، فذلك من آثار وصف جماله فالإبداع دليل على كمال التقدير والحكمة، والنفاذ فذلك من آثار وصف جلاله، فهو مئنة من كمال قدرته، عز وجل، بإيقاعه الكائنات على ما قد قدر أزلا، كما تقدم مرارا، فتضمن هذا اللفظ بأصل وضعه وبما ضمنه من معان أوصاف الجلال والجمال معا، وذلك من بلاغة الكتاب العزيز بإيراد المعاني الجليلات في ألفاظ يسيرات، فكلمة واحدة تدل على وصف الرب، جل وعلا، في فعل بعينه من أفعاله الكاملات، فكيف بوصف جلاله وجماله في أفعاله التي لا مبتدى لها، فهو الفاعل أزلا، ولما يكن مفعول كائن في عالم الشهادة، فاتصف بالفعل قوة ثم ظهر أثره بالفعل لما شاء خلق كونه، ولا منتهى لها في الأبد، فهو الفعال لما يريد على ما اطرد من دلالة وصف المبالغة على معنى مضارعه الدال على الحال والاستقبال كما قرر النحاة، فلفظ القضاء قد أفاد في هذا الموضع ما لا يفيده غيره فهو اللفظ الملائم لهذا السياق دون غيره من الألفاظ وإن رادفته في المعنى على القول بوقوع الترادف، أو قاربته، على القول بوجود القدر الفارق بين أي معنيين يدل عليهما لفظان متباينان، فاختلاف المبنى مئنة من اختلاف المعنى ولو في فرعه دون أصله، وذلك مما يزيد التنزيل قوة وجزالة، باختيار لفظ بعينه دون بقية الألفاظ التي تشاركه أصل المعنى فهو وحده الملائم تمام الملاءمة لهذا السياق بعينه، وذلك عين الإحكام والسبك للنظم القرآني.

ثم أوحى في كل سماء أمرها الكوني بمشيئته النافذة، فذلك من عنايته إذ قد دبر أمر الكائنات العلوية كما قد دبر أمر الكائنات الأرضية، والوحي لفظ: يعم معان عدة على جهة الحقيقة والمجاز على القول بوقوع المجاز في التنزيل، فالوحي في كل سياق بحسبه، على ما تقرر من استقراء مادة: "وحى" في نصوص الوحي: قرآنا وسنة، فيكون وحيا شرعيا وإلهاما كونيا وإشارة وأمرا وقبولا لأثر الأمر الكوني النافذ في نحو قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، ولا مانع من حمل مادة: "الوحي" في هذه الآية على كل تلك المعاني لعدم وقوع التعارض بينها، بل الجمع بينها يزيد المعنى قوة وجزالة، على ما تقدم بيانه من ازدحام المعاني في لفظ: "القضاء" لا على جهة التعارض، فليس ذلك بإجمال يقتضي ترجيح معنى على آخر، وهذا الحمل على كل المعاني التي يدل عليها لفظ الوحي في هذا السياق، سواء أقيل بوقوع الحقيقة والمجاز، أم كانت كلها حقيقة بقرينة السياق، ذلك الحمل هو اختيار صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، وإليه أشار بقوله: "والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها، وتقادير سير كواكبها، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون"

ثم خص بالذكر بعد عموم التدبير: تزيين السماء بالمصابيح، فبها تزدان السماوات وترجم الشياطين التي تسترق السمع، على حد قوله تعالى: (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ)، ثم ذيل بوصفي العزة فذلك مئنة من تمام القدرة التي يقع بها ذلك التزيين، والعلم فذلك مئنة من تمام الحكمة التي يقع بها المقدور على ذلك النحو من الإتقان والإحكام، والإشارة بذلك مئنة من علو شأن المذكور فهو من فعل الرب المعبود، جل وعلا، وفعله قد بلغ الغاية من الكمال بداهة، والقول بعود اسم الإشارة: "ذلك" على كل ما تقدم من الآيات الكونية الباهرة دون تزيين السماء بالمصابيح خاصة أولى في معرض الدلالة على دلائل ربوبية الرب، جل وعلا، إيجادا بالقدرة، وعناية بالحكمة.

فذلك من التذييل بإجابة سؤال مقدر في الأذهان دل عليه السياق بداهة، فالذهن يسأل عما تقدم من الآيات الكونية الباهرة، كيف وجدت ولم وجدت؟، فجاء الجواب على حد الفصل للتلازم الوثيق بين الإجابة والسؤال فذلك من شبه كمال الاتصال، فـ: ذلك تقدير العزيز العليم.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير