تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[30 - 04 - 2010, 08:12 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ):

فقدم متعلق الخبر مئنة من التشويق، وجاء المبتدأ مؤولا من "أن" ومدخوليها، فضلا عن مجيء خبر الناسخ على حد المضارعة استحضارا للصورة، فترى الأرض ساكنة هامدة، فهي على رسم الموات، فإذا باشرها الماء بما أودع الرب، جل وعلا، فيه من قوى الإحياء اهتزت وربت، فذلك من دلائل البعث، إذ ينزل الرب، جل وعلا، من السماء ماء كمني الرجال في قوة الخلق والإيجاد من النطفة الموات إذا أراد نشر الأجساد، فكذلك الماء النازل من السماء يباشر مواضع الحياة في البذر فينبت، ويباشر مواضع الحياة في العظم فينشز، فالسنة الكونية واحدة بها يظهر كمال قدرة الرب، جل وعلا، على الإيجاد من العدم، وكمال حكمته أن جعل لكل مسبَّب سببا، فجعل الماء سببا لتولد سائر صور الحياة الدنيوية والأخروية، الحيوانية والنباتية على حد قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، فذلك عموم قد خصه العقل بما دون الحيوات النورانية اللطيفة كحياة الملائكة والجان. فجعل الرب، جل وعلا، من جنس الماء سائر صور الحيوات المادية الكثيفة.

والرؤية محمولة على الرؤية البصرية، وقد جاءت مضارعة مئنة من استحضار تلك الآية الكونية المشاهدة بالبصر المدركة بالحس، فيكون وصف: "خاشعا": حالا، فلا تتعدى الرؤية البصرية إلا لمفعول واحد، فتراها خاشعة مئنة من السكون لجدبها وانقطاع الزرع منها، فتلك استعارة مكنية بتشبيه الأرض بالرجل المنكسر والتكنية عنه بوصف الخشوع فهو من لوازم الانكسار، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، وهذا حد الاستعارة المكنية، كما قرر البلاغيون، وهو آكد في تقرير المعنى بتشبيه الصورة المعقولة بالصورة المحسوسة، فذلك يقربها إلى الأذهان، والتشبيه حقيقة على الراجح من أقوال البلاغيين، فطرفاه ثابتان على وجه الحقيقة، وقد يقال بأن الكلام محمول على الحقيقة من وجه آخر فمادة: "خشع" كما في اللسان تدل على: السكون، فـ: "كلُّ ساكنٍ خاضعٍ خاشعٌ". اهـ

فذلك معنى كلي جامع يشمل صور الخشوع المعقول كخشوع القلوب والنفوس، وصور الخشوع المحسوس كخشوع الجوارح الحساسة المتحركة، وخشوع الأرض الميتة الجامدة فلا زرع فيها، فيكون من هذا الوجه: مشتركا معنويا، فمعناه الكلي متحقق في كل أفراده على جهة الحقيقة فلا مجاز فيه من هذا الوجه، والخطب يسير، بل إن الصورة البلاغية التي يجري فيها الكلام مجرى الاستعارة آكد، كما تقدم في تقرير المعنى، فللخيال دور كبير في تقرير المعاني المعقولة، ثم جاءت الاستعارة الثانية فشبهت الأرض بمن كان ذليلا فعز فاهتز جسده طربا لما ناله من السعة بعد الضيق، وحذف المشبه به وكني عنه بلازم من لوازمه وهو: "الاهتزاز" على ما تقرر في حد الاستعارة المكنية، فتلك استعارة مكنية ثانية، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، تزيد المعنى، أيضا، بيانا وإيضاحا، فحصل من المجموع صورة مركبة تدل على آثار قدرة الرب، جل وعلا، في بث الحياة النامية في الأرض الميتة، فينقلق الحب والنوى ليستوي الزرع على سوقه، فنماؤه وزيادته من جنس حركة الذليل المستكين لما وردت عليه أسباب العزة فلم يملك إلا أن اهتز طربا، وإن كان ذلك من جنس الفرح المذموم إن كان برسم: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، فالمراد بيان وجه الشبه الذي يحصل به بيان عظم قدرة الرب، جل وعلا، على بث الحياة في الموات الساكن.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير