تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

للكائنات، فالنهار وقت ينتشر فيه البشر، والليل وقت يسكنون فيه، والحر وقت تنضج فيه الثمار، والبرد وقت تبيت فيه الكائنات بياتها الشتوي فتسكن حركتها حتى يأتي الربيع فتنشط ويبدأ موسم التزاوج مئنة من بداية الحياة، كما يبدأ الطفل حياته، فربيع عمره أوله، فيتولد الربيع وهو مادة الحياة من الشتاء وهو مادة البيات والموت، مئنة من قدرة الرب، جل وعلا، على تنويع الأحوال بتوالي المتضادات فموت تعقبه حياة، فيخرج الرب، جل وعلا، الحي من الميت، فيخرج المولود من النطفة وهي موات، ويخرج الزرع في الربيع من الأرض بعد طول سكون في الشتاء، وهو، أيضا، مئنة من حكمته، عز وجل، إذ ارتبطت الحياة بأسبابها وفق سنن كونية محكمة، فارتبط خروج الزرع في الربيع بما هيأ الله، عز وجل، فيه من ظروف النماء، وارتبط خروج المولود من بين ذكر وأنثى، بما هيأ الرب، جل وعلا، لهما، من اللقاء، فخرجت الحياة من بينهما وفق ما قدر الرب، جل وعلا، أزلا، فجاء لقاؤهما تأويلا لمقدور الرب، جل وعلا، في عالم الغيب، فهو السبب الذي قضي به المقدور في عالم الشهادة فجاء وفق ما قدر الرب، جل وعلا، بلا زيادة أو نقصان، مئنة من تمام حكمته، فالتأمل في تلك الأعراض التي تقوم بالأجرام والأعيان على نحو ينتظم به أمر العالم على هذا النحو الدقيق المحكم مما يزيد الناظر تصديقا وإقرار علميا بكمال ربوبيته، عز وجل، إذ لا يقع مقدور في كونه إلا بمشيئته مئنة من قدرته، وتدبيره مئنة من حكمته، فهذان، كما تقدم مرارا، ركنا الربوبية.

فإذا بدأت الحياة بالربيع ثم اشتدت في الصيف ثم هدأت في الخريف ثم سكنت في الشتاء، فذلك صورة من الحياة اليومية: فحراك هادئ في أول اليوم ثم تشتد الحركة بارتفاع الشمس حتى تصل إلى ذروتها ساعة الظهيرة ثم تبدأ في الانكسار بزوال الشمس، فحركة الحياة نشاطا وخمولا مرتبطة بسنة جريان الشمس في جو السماء، ثم تسكن وتهدأ إذا جن الليل حتى تخمد في آخره، وقل مثل ذلك في حياة الإنسان: فضعف سرعان ما يؤول إلى قوة الصبا والشباب فالخلايا والأنسجة في غاية النشاط، ثم تستقر الحال بانتصاف العمر، ثم تبدأ شمسها في الغروب بتقدم العمر، ودخول الشاب مرحلة الكهولة فالشيخوخة، حتى يأذن الرب، جل وعلا، بالرحيل، ولا يعني ذلك اطرادها في كل حي، بل قد أجرى الرب، جل وعلا، السنة الكونية مطردة مئنة من نفاذ قدرته وتمام حكمته، ثم شاء تخلفها في بعض الصور فبعض يموت ولما يبلغ، بل ولما يخرج من رحم أمه مئنة من قدرته، أيضا، إذ نوع بين أقدار عباده لئلا يعتقد من خلاق لهم من ملاحدة الأمم أن هذا الكون يجري وفق سنة ميكانيكية رتيبة بلا رب مدبر يحدث فيه ما شاء من أقداره الكونية النافذة، بل له رب إن شاء أجرى السنة الكونية وإن شاء أبطلها، ولا يكون ذلك إلا لحكمة بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها، فتلك سنته في كونه في الأجرام والأجساد: سنة إيجاده من العدم، فاشتداد العود، فاستوائه فنقصانه ففنائه، وبها يظهر كمال الرب، جل وعلا، الذي قهر الكائنات بالموت والفناء، فيظهر وصف حياته فهي أصل صفات ذاته، وقيوميته بالتدبير والإحصاء فهي أصل صفات أفعاله، فإزاء حيواتهم الناقصة التي يعتريها من أعراض النقص والفساد ما يعتريها: حياته الكاملة التي لا يعتريها نقص ولا يطرأ عليها فساد أو فناء فهو الأول أزلا بصفاته الكاملات وأفعاله المحكمات، وليس ثم مفعول، فوصف فعله قائم بذاته القدسية قوة، حتى إذا شاء خلق المفعول وأجرى عليه أفعاله فصار فاعلا بالفعل، فلم يكن معطلا عن وصف كماله ذاتا أو أفعالا، بل له أزلية ذلك، وهو الآخر أبدا، فلا يفنى ولا يبيد، بل الباقيات على رسم الخلود في دار النعيم أو العذاب إنما تبقى بإبقائه، عز وجل، لها، فليس وصف الحياة الأبدية فيها ذاتيا كوصفها فيه، جل وعلا، بل تستمد مادة خلودها منه، جل وعلا، فهو المخلد لأهل الإيمان في دار الكرامة، ولأهل الكفران في دار المهانة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير