تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلما تقرر ما تقدم من عموم ربوبيته وكماله ذاته ووصفه وفعله، جاء لازم ذلك على حد الفصل لشبه كمال الاتصال، على ما تقرر مرارا من التلازم بين فعل الرب، جل وعلا، ربوبية، وفعل العبد ألوهية، فالأول علة الثاني فهو الرب المعبود فرعا عن كونه الرب الموجد المدبر فـ:

لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ: فذلك من طباق السلب إمعانا في نفي التماثل بين أعظم متباينين، فذلك مما اطرد من الميزان القرآني المحكم بالتسوية بين المتماثلات في الحكم فرعا عن تماثلها في الوصف، والتفريق بين المتباينين في الحكم فرعا عن تباينهما في الوصف، فلا تسجدوا للمخلوق إذ النقص فيه وصف ذات لازم فلا يستحق منصب الألوهية إذ لا يكون الإله إلا كاملا، فذلك من البداهة بمكان إلا عند من طمس الرب، جل وعلا، على بصيرته، فشغل بالناقص عن الكامل، فالمخلوق، وإن شرفت ذاته، فإنها لا تنفك عن النقص والحاجة، وبذلك احتج صلى الله عليه وعلى آله وسلم على نصارى نجران، فإنهم أقروا بأن المسيح عليه السلام كان كسائر البشر مفتقرا إلى الأسباب ليبقى بمقتضى ما سن الرب، جل وعلا، كونا من اغتذاء الأبدان بالمطعوم، وانتفاعه بما ركب فيه من القوى بالمهضوم، وطرده لما لم ينتفع به وتلك من أعظم صور النقص في الهيئة البشرية، فهي كمال من جهة استواء الخلقة وصحة آلات الهضم والإخراج، ولكنها لا تنفك عن وصف نقص ذاتي لازم لصاحبه، وتأمل حال من ابتلي بعسر هضم أو احتباس فضلة في البدن، كيف يتألم، ليظهر بذلك من كمال أوصاف الرب، جل وعلا، إذ بضدها تتميز الأشياء كما تقرر مرارا، واسجدوا للذي خلقهن فعلق الحكم على وصف الخلق على ما تقدم مرارا من تعليق الحكم على وصف لا يقبل الشراكة، فذلك آكد في بيان تفرده جل وعلا بتمام التأله فرعا عن انفراده بكمال وصف الربوبية خلقا وتدبيرا، وذكر السجود إما أن يحمل على حقيقته اللغوية وهي الخضوع، كما أشار إلى ذلك صاحب "اللسان"، رحمه الله، بقوله: "وكل من ذل وخضع لما أُمر به فقد سجد ومنه قوله تعالى: (تتفيأُ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون) أَي خضعاً متسخرة لما سخرت له وقال الفراء في قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان) معناه يستقبلان الشمس ويميلان معها حتى ينكسر الفيء ويكون السجود على جهة الخضوع والتواضع كقوله عز وجل: (أَلم ترَ أَن الله يسجد له من في السموات) (الآية) ". اهـ

فيعم سائر أجناس التعبد بدلالته الوضعية إذ معنى الخضوع متحقق في سائر العبادات: قلبية كانت أو لسانية أو بدنية، فلا تنفك عبادة يوقعها صاحبها لا على جهة النفاق أو الرياء، لا تنفك عن خضوع هو من فعل العبد، فهو أحد ركني العبادة بالنظر إلى فعل المكلف: تمام المحبة مع تمام الخضوع والذل، فهو متعلق وصف جلال الرب، جل وعلا، الفعلي، كما أن المحبة متعلق وصف جماله الذاتي.

وإما أن يحمل على حقيقته الشرعية، وهي وضع الجبهة على الأرض على هيئة السجود المعروفة، وهو الأصل في نص الشارع، عز وجل، فحمله على حقيقته الشرعية في سياق شرعي أولى من حمله على حقيقته اللغوية، إذ الشرع لم يرد لبيان الحقائق اللغوية فذلك مما استقر في عرف اللسان العربي قبل نزول الوحي، وإنما استعمل الوحي الحقائق اللغوية في تقريب المعاني الشرعية إلى الأذهان فالحقيقة اللغوية وسيلة إلى بيان الحقيقة الشرعية، إذ الحقيقة الشرعية: حقيقة لغوية مقيدة، فجنس السجود اللغوي إذا حمل على المعنى الاصطلاحي فإنه يقيد بصورة بعينها هي وضع الجبهة على الأرض خضوعا وتذللا للرب، جل وعلا، فإذا حمل على حقيقته الشرعية فإنه يكون من باب ذكر بعض أفراد العام في معرض التمثيل له فلا يخصصه، إذ السجود والركوع وسائر صور الخضوع تعبدا مما يجب إفراد الرب، جل وعلا، به، وإنما خص السجود بالذكر لكونه أشرف أجناس التعبد كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، بقوله: "فإن السجودَ أقصى مراتبِ العبادةِ فلا بُدَّ من تخصيصه به سبحانَهُ". اهـ

وقد يقال بأن حمله على الحقيقة اللغوية المطلقة آكد في هذا الموضع، مع كونه خلاف الأصل في الشرعيات، إذ السياق دال على إرادته لعموم معنى الخضوع في سائر أجناس التعبد، فذلك أعم في الدلالة من تخصيصه بالسجود الاصطلاحي، وإن كان مؤدى كليهما واحدا فعموم الخضوع في كليهما كائن إما بالوضع إذا نظر إلى الحقيقة الشرعية، وإما بالقياس على صورة السجود الاصطلاحي.

والإثبات بعد النفي قائم مقام الحصر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فتقدير الكلام: لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ولكن اسجدوا لله وحده دونهن.

ثم ذيل بالشرط: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: إلهابا للهمم حملا لها على إفراده جل وعلا بالتعبد بقرينة تقديم الضمير على عامله فذلك مئنة من الاختصاص حصرا وتوكيدا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير