تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ: فهي مئنة من ندرة وقوع المس الذي هو أدنى درجات الإصابة، فالأصل هو: السلامة والسعة، فذلك من تمام عنايته، عز وجل، بعباده، فإن ورد الابتلاء بالتضييق، فهو عارض أبتر، لا دوام له، وإن طال زمانه واتصلت أيامه، مع كونه نعمة في حق الصابر والراضي، فبه تمحص النفوس، وترفع الدرجات، فهو لمن تدبر ورزق سدادا في الفهم وعزيمة على الرشد حال نزول الابتلاء فألهم الصبر فلم يجزع ولا يكون ذلك إلا لمن اصطفاه الرب جل وعلا لتلك المنزلة السامية، هو لمن هذه حاله: كرامة أي كرامة!، وإن كانت العافية أوسع للمؤمن، فسؤالها والإلحاح في ذلك طريقة كل عاقل فمن ذا الذي يصبر على الشدة والآلام إلا من اصطفاه الرب، جل وعلا، فثبته في موضع تزل فيه الأقدام وتسوء فيه الظنون بالرب المعبود تبارك وتعالى.

فإذا مسه أي ضر، فهو جزع يائس، ومن كل رحمة قانط، فمن فرح بالنعمة فرح البطر والأشر، يأس حال النقمة فأصابه اليأس والجزع، ولذلك كان شكران الرب، جل وعلا، حال النعمة، خير زاد للعبد حال الشدة.

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي: فجاء التوكيد بالقسم المقدر الذي دلت عليه اللام الموطئة، ولام الجواب التي تلقي بها جواب القسم المؤكد هو الآخر بنون التوكيد المثقلة، فذلك طبع الإنسان الذي يقابل عناية الرب، جل وعلا، به بصنوف النعم الكونية بالجحود والنكران على حد قوله تعالى: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي). والذوق مئنة من كمال الإحساس وتنكير الرحمة مئنة من التعظيم لصدورها من الرب، جل وعلا، فـ: "من" لابتداء غايتها منه، فعظمها من عظم من صدرت عنه، وذلك من كمال عنايته، عز وجل، بعباده أن اختصهم بأجناس من الرحمات الشرعية والرحمات الكونية، فإما أن تحمل، كما تقدم مرارا، على أجناس الرحمات المخلوقة، وإما أن تحمل على وصفه، جل وعلا، فيكون صدورها منه، جل وعلا، صدور الصفة من الموصوف، فهاتان جهتا نسبة الرحمة إليه جل وعلا. وعلى كلا النسبتين ظهر من كمال وصف ربنا، عز وجل، عناية بعباده ما يحمل المسدد على إحسان الظن به، تبارك وتعالى، فما ابتلى إلا ليطهر، وما عافى إلا ليكرم الشاكر ويستدرج الجاحد. وإحسان الظن به، عز وجل، أصل جليل من أصول السعادة في الدنيا لا سيما في أزمنة الشدة التي تمحص فيها النفوس، وفي الآخرة فمن أحسن الظن أحسن العمل فبذل سبب دخول الجنان بمنة الرب الرحمن جل وعلا.

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى:

فذلك من فساد التصور فإن إحسان الظن لا يكون إلا فرعا عن إحسان العمل، فالتلازم بينهما بمكان، فالعمل علة إحسان الظن، والتلازم بين العلة والمعلول أمر تدركه بدائه العقول، فذلك جار على مقتضى ما سن الرب، جل وعلا، بحكمته البالغة، من أسباب الكون والشرع فلا يتوسل إلى المعلول إلا ببذل علته، فإحسان الظن بالرب، جل وعلا، لازم إحسان العمل. فلا يكون إحسان بلا عمل، وإنما ذلك محض أماني يتسلى بها البطالون من أصحاب الهمم الدنية.

فقياس حال الآخرة على حال الدنيا قياس فاسد يدل على فساد عقل صاحبه، فإن حال الدارين وأحكام كليهما متباينة، فلا يلزم من السعة في الدنيا: السعة في الآخرة، بل قد تكون سعة الدنيا: إملاء، أو توفية أجر كما في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، بل تلك هي الحال الغالبة في دار الدنيا، فأصحاب النعيم والترف غالبا ما تفسدهم النعمة، فيصيبهم البطر والأشر، فإن لم تكن ثم ديانة تعصم، فإن صاحب المال سيطغى لا محالة بمقتضى ما جبل عليه من حب الطغيان فـ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، فلا يلزم من العافية والسعة في الدنيا: رضا الرب، جل وعلا، بل يمتنع ذلك إن كان صاحب النعمة مارقا من الديانة بكفر أو فسوق، وإن كان سؤال العافية مرادا شرعيا، فلا تقوى كل النفوس على ابتلاء الفقر الذي يفسد هو الآخر قياس العقل، فالفقر كالجوع يذهل صاحبه،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير