تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يحسن شيئا من أمر الدين أو الدنيا، والتوسط في غير إسراف أو تقطير مسلك المسددين في هذا الباب، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق الرب جل وعلا.

وقد جوز صاحب "التحرير والتنوير" حمل الآية على التهكم، فتلك حال صاحب الجنتين: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)، فيكون ذلك موطئا لما جاء عقيبه من الوعيد، ففساد تصوره بإنكار البعث، وما يتفرع عن ذلك لزوما من فساد العمل، بإساءة استعمال النعمة، ذلك الفساد مئنة مما يليه من الوعيد:

فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ:

فذلك من الوعيد الذي ينقض الدعوى السابقة، وقد جاء مؤكدا، أيضا، بالقسم المحذوف الذي دلت عليه لام الجواب، فهي المؤكد الثاني، ونون التوكيد المثقلة فهي المؤكد الثالث.

وأظهر وصفهم بالموصولية: "الَّذِينَ كَفَرُوا"، وحقه الإضمار، تنبيها على استحقاقهم هذا الوعيد، وذلك، أيضا، توكيد رابع في معرض الوعيد لهم والترهيب من سلوك طريقتهم.

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ:

فذلك من عناية الرب، جل وعلا، بالإنسان، بالإنعام المنسوب إليه، تبارك وتعالى، على جهة التعظيم، فذلك أليق بمقام الامتنان وفي مقابل تلك العناية بتلك النعمة السابغة: دينا ودنيا، يعرض الإنسان عن دعاء الرب، جل وعلا، على ما قدره صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك واجب الألوهية في مقابل عطاء الربوبية، وقد يحمل الدعاء على صورته المعروفة، فإن النعمة مظنة الغفلة، ولذلك جاء النص على هذه الصورة بعينها تنبيها على ما يقع لابن آدم من الغفلة بالاشتغال بالنعمة عن المنعم، جل وعلا، إذ الشدة مظنة الرجوع إلى الرب، جل وعلا، ودعائه، ولو كان الداعي مشركا، كما في قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، بخلاف النعمة، فإنها، كما تقدم، مظنة الانصراف عن دعاء الرب، جل وعلا، وقد يحمل الدعاء على معناه العام فهو العبادة، على حد قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، فقابل بين الدعاء والعبادة، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"، فذلك من الحصر والتوكيد بتعريف الجزأين واسمية الجملة وضمير الفصل، فيكون إعراضه عن واجب الألوهية اللازم لشكر نعمة الربوبية على ما اطرد مرارا من التلازم بين الربوبية إيجادا وتدبيرا، والألوهية خضوعا وتسليما، وفي المقابل: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ: فذلك استيفاء للشطر الثاني من أوجه القسمة العقلية إذ لا ينفك الإنسان عن نعمة واجبها الشكر، ونقمة واجبها الصبر والتوبة، فأسند فعل المس، وهو مشعر بأدنى قدر من الإصابة، إلى الشر من باب المجاز العقلي عند من يقول بالمجاز بإسناد الفعل إلى سببه ومن ينكر المجاز فإنه لا يمنع إسناد الفعل إلى السبب المؤثر على جهة التأثير غير المستقل فالرب، جل وعلا، هو المقدر له أزلا، المجري له إذا شاء وقوع الفعل، وعلى كلا القولين تظهر سرعة جزع الإنسان فيسارع إلى الرب، جل وعلا، حال الشدة مع عظم إساءته حال السعة، ومن وجه آخر: نسب الفعل إلى الشر تأدبا مع الله، عز وجل، فالشر ليس إليه فعلا، وإن كان خالقه ومقدره، وذلك أصل مطرد في آي التنزيل، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو كائن في نحو قوله تعالى: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)، فبنى فعل إرادة الشر لما لم يسم فاعله تنزيها للرب، جل وعلا، عن فعل الشر، وإن كان خالقه كما تقدم، وجاء بالفاعل صريحا في إرادة الخير، ونكر الرشد تعظيما فذلك زيادة ثناء على الرب، جل وعلا، ببيان عظم آلائه الكونية والشرعية على عموم البرية، فالرشد في أمر الدين: أشرف أجناس النعمة الربانية.

وفي نحو قوله تعالى: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، فأضاف المرض إليه، وإن لم يكن هو الموجد له، فالرب هو الذي خلقه وابتلى به عدلا وشفى منه فضلا، ولذلك نسب الشفاء إليه تبارك وتعالى، فلا ينسب الشر إلى الله، عز وجل صراحة، وإنما ينبى لما لم يسم فاعله، أو يدخول في عموم فلا يوهم قدحا، على وزان قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، فدخلت فيها كل المخلوقات على ما فيها من خير أو شر.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير