تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهو معهود من حال النبي الواحد في خاصة نفسه، على خلاف بين أهل العلم هل اختص الكتاب العزيز من بين سائر الكتب المنزلة بنزوله نجوما متتالية على أسباب وهو الأقل، أو ابتداء، وهو الأكثر، على حد قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، فقولهم إشارة على سبيل الكناية إلى نزول الكتب السابقة جملة واحدة فجاء الكتاب العزيز على خلاف ما عهدوه، لحكمة ذيل بها: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، والوحي من أشرف أفراد دلالة العناية، بل هو أشرفها لتعلقه بأشرف النعم الربانية على البشرية: نعمة النبوة الهادية، فللنبوة أخبار وأحكام، وأخلاق وآداب بها يستقيم أمر الأتباع على سنن الهدى في أمر المعاش، وهذا أمر مشاهد في النوع الإنساني إذ بتواتر جنس النبوات في أمة يقع من صلاح الحال ما لا يقع في أمة قد خفيت فيها آثار النبوة، فضلا عن الأمم التي لم تعرف النبوة أصلا، وهذا أصل في صلاح وفساد الأمم، فكلما كانت الأمة أقرب إلى النبوة، ولو محرفة، فهي خير من امة بلا نبوة ابتداء، فليس لها من التعلق بخبر السماء ولو مجرد النسبة، فإن من بركتها أن يقع بها نوع صلاح للمنتسب إليها، في أخلاقه وسائر أمور معاشه، وإن لم يكن له خلاق في الآخرة، والأمة التي لم تبدل الوحي، وإن فرطت في تعاليمه فعطلته بلسان الحال، خير من الأمة التي فرطت بلسان المقال تحريفا ولسان الحال هجرا وعزلا عن منصب الرياسة، فالأمة التي تولت الوحي نوع ولاية وإن لم تخل من منازعة غيره من الطواغيت الأرضية مادية كانت أو معنوية، كسائر التشريعات والمذاهب الأرضية الحادثة، الأمة التي وصفها هذا خير من الأمة التي عزلته بالكلية، وولت غيره برسم الديمقراطية أو الليبرالية ....... إلخ، والأمة التي قدمته فجعلته الرئيس المعظم فلا تصدر إلا عن أمره هي أعظم الأمم استقامة في المعاش، وأرجى الأمم للنجاة في المعاد، وإن لم يكن للجماعة كبير حظ من النبوة، فإن العاقل لا يفرط في حظه منها فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، فحسبه أن يلتزم بها ويدعو إليها غيره من المسلمين فهم أسرع الناس إجابة لكونهم متقنين لأصولها العلمية وإن فرطوا في كثير من أحكامها العملية بل ربما تعدى تفريطهم في الأعصار والأمصار التي يخفى فيها العلم ويظهر فيها الجهل إلى الأصول مع كونهم مقرين بها جملة فيعذرون بالجهل ما لا يعذر به غيرهم، إن لم يفرطوا في طلب الحق، على تفصيل دقيق لأهل العلم في مثل تلك المضايق التي يصير الناس فيها غالبا إلى طرفي: التفريط فذلك رسم الإرجاء، والإفراط فذلك رسم الخروج.

وبالنبوة الصحيحة يستقيم أمر المكلف في دار الجزاء، فأتباع الأنبياء هم ورثة جنة الرحمن تبارك وتعالى.

فهي نعمة عاجلة وآجلة، امتن بها الرب، جل وعلا، على النوع الإنساني، فهي من جملة ما كرم به وفضل على سائر الخلائق، فالجن، وإن كانوا أعظم خلقة إلا أنهم لا يعرفون منها إلا الإنذار، فليس منهم لقصور مراتبهم العلمية: نبي، وإن كانت قواهم أعظم من قوى البشر.

والمنعم بها: "الله العزيز الحكيم": فذلك وصفه الجامع لأوصاف ربوبيته وهو ما يقتضيه مقام الامتنان بالوحي، فهو العزيز ذو القدرة النافذة فلا راد لقضائه، وهو الحكيم ذو الحكمة البالغة، فبها يدبر أمر الكون بالكلمات التكوينية، وأمر الشرع بالكلمات التشريعية، ثم جاء بيان أثر تلك الصفات في عالم الشهادة، فعنها صدر هذا العالم بإتقانه وإحكامه، فالتذييل بقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، ينزل منزلة البيان لوصفي العزة والحكمة ببيان أثرهما في عالم الشهادة، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فهو من باب تفسير السبب بمسبَّبه، أو العلة بنتيجتها، فالصفات الربانية الفاعلة علة صدور هذا العالم، إذ بمقتضاها جاءت الكلمات الكونية، فكلمات كونية كان بها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير