تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الذي ينصر عباده المؤمنين فذلك وصف جلاله، الحكيم الذي يدبر أمر الفريقين على نحو يظهر به كمال صفاته، فيبتلي المؤمنين عدلا، ويظهر الكافرين استدراجا ومكرا، ثم تكون العاقبة للرسل عليهم السلام وأتباعهم فيظهر أثر وصفه بالصدق إثباتا وعدم إخلاف الميعاد نفيا، فوصفه، كما تقدم، ثبوتي فهو مراد لذاته، سلبي بتنزيهه عن وصف النقص فهو مراد لغيره بإثبات كمال ضده.

ومن دقيق السبك القرآني أن جاء عموم وصف الرزق في الآية السابقة مجملا: "يرزق"، ثم ورد بيانه في هذه الآية فلأهل لدنيا أرزاقهم، ولأهل الآخرة أرزاقهم، فمن أراد كلاً على حد الشرطية المؤذنة بوقوع المشروط بوقوع شرطه فذلك مئنة من التلازم الوثيق بين الفعل وجزائه، وذلك أليق بإثبات فعل العبد بإرادة مؤثرة لا تخرج عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية العامة، وإن خالفت إرادته الشرعية، فإن طالب الدنيا لذاتها مع خسة قدرها قد خالف مراد الرب الشرعي يقينا، فإن الدنيا لا يحمد طلبها إلا نصرة للدين باستعمالها في صيانته لا استعمال القوى والإرادات في صيانتها، فذلك من فساد التصور العلمي الذي يولد فسادا في الإرادة البشرية بتعلقها بسفاسف الأمور دون معاليها، فتلك خسة في الهمة القلبية تظهر آثارها على الأفعال البدنية فيصير هم المكلف تحصيل حظه وقضاء وطره من الدنيا قضاء الحيوان البهيم الذي لا يملك إلا قوى الحس والتخييل فبها يدرك المحسوسات التي يلتذ بها بلا غاية، فليس له قوة عقلية يدرك بها المآلات، فهمه تحصيل الشهوة الحالية، وهو، مع ذلك، غير ملوم، إذ لم يتوجه إليه خطاب التكليف وإنما يلام من سلك مسلكه مع كمال قوته العقلية التي يتعلق بها التكليف: معدن التشريف عند التحقيق للنوع الإنساني باصطفائه لحمل الأمانة وإقامة أمر الديانة.

فـ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ: فذلك من الوعد الجزيل، فإن الشكور يعطي على القليل الكثير، فمن أراد معالي الأمور زيد له فيها تفضلا وامتنانا من الرب الغني الحميد تبارك وتعالى، فيحمد الرب، جل وعلا، عمله، بالقبول، ويزيد له في الحرث فلا يخشى فقرا أو نفاد عطاء، فعطاؤه غير مجذوذ، ومسائل عباده وإن عظمت كيفا وكثرت كما لا تنقص من ملكه إلا كما ينقص المخيط من البحر، فلا تنقص شيئا، وإنما ضرب المثل إمعانا في بيان عظم ملكه وسعة عطائه.

وفي المقابل: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا: فذلك مئنة من حقر شأنها فنؤته مما تعجل من الحظوظ الناقصة التي لا تسلم من الأكدار، الفانية التي لا تسلم من الفساد، ولكل مقام مقال، ولكل همة متعلق، فهمة قد تعلقت بنعيم الآخرة الباقي فشمرت السواعد، وجدت في السير إلى مراضي الرب جل وعلا، وهمة قد تعلقت بنعيم الدنيا فقعدت بصاحبها عن طلب المعالي، فاكتفى بحظوظ بطنه وفرجه، وأحسن أحواله أن يتسلى بلذة رياسة أو وجاهة وهمية لا حقيقة لها إذ لم تكن على وزان الطريقة الشرعية.

وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ: على حد العموم لورود النكرة في سياق نفي مؤكد بمن فضلا عن تقديم ما حقه التأخير فذلك أبلغ في المساءة ببيان عاقبة التكالب على حظوظ الدنيا الناقصة فهو مظنة بل ذريعة إفلاس العبد من حظوظ الآخرة الكاملة.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[21 - 05 - 2010, 07:37 ص]ـ

ومن قوله تعالى:

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ: فذلك من حكمته، عز وجل، التي يحصل بها صلاح العالم، فذلك من عنايته بخلقه بانتظام كونه بأمره بتنزيل الأرزاق بقدر، وإن كان له من القدرة والغنى ما يعطي به كلا سؤله دون أن ينقص ذلك من ملكه شيئا، ولكن الحكمة تقتضي وقوع التغاير في المقدورات لتظهر آثار سنن الرب، جل وعلا، الكونية، وآثار صفاته، فهو الخبير بدقائق الأمور البصير بشئون عباده، فلا يشغله شأن عن شأن، بل يعطي كلا بحسبه، فيعطي الغني ليبتليه بالبذل، ويمنع الفقير ليبتليه بالصبر، فتظهر بالمتضادات آثار ربوبيته الكاملة إذ لكل سنته الكونية النافذة، ولكل سنته الشرعية الحاكمة فتتفاوت العبوديات بتفاوت الأعيان والأحوال صحة أو مرضا،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير