تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على ما تقدم بيانه، فلا بد من قدر مشترك في أصل المعنى به تدرك المعاني، وقدر فارق خارج الأذهان تدرك به الحقائق، فحقائق الأعيان والأوصاف خارج الذهن متباينة، فحقيقة زيد غير حقيقة عمرو، وحقيقة علم زيد غير حقيقة علم عمرو، وإن اشتركا في المعنى الكلي للعين، فالذات المطلقة معنى يقبل الشراكة لعدمه في الخارج، فلا يوجد مطلقا إلا في الذهن، فيقبل توارد الشركاء عليه بلا إشكال فإذا حصل التقييد في الخارج امتاز الشركاء فباينت ذات عمرو ذات زيد، وقل مثل ذلك في الصفات فالعلم وصف كلي مطلق يرد عليه القيد الخارجي فتمتاز أفراده خارج الذهن فعلم زيد غير علم عمرو ..... إلخ، وذلك ما احتج به مثبتو الصفات الإلهية على الوجه اللائق برب البرية، جل وعلا، فردوا به على أهل التأويل والتفويض، فلا يلزم من الاشتراك في المعنى الكلي تشبيه ليؤول أو يفوض معناه مع ظهور دلالته، فلا يقول أحد بأن العلم إذا أضيف إلى الرب، جل وعلا، أو أي صفة أخرى معنوية كانت كالبصر أو خبرية كالعين، فإنها بهذه الإضافة تفقد دلالتها المعنوية التي يدركها العقل بقطع النظر عن الحقيقة الخارجية فذلك مما استأثر الرب، جل وعلا، بعلمه، بل يثبت معناها وتفوض حقيقتها إلى العالم بها، تبارك وتعالى، فذلك التفويض الجائز في هذا الباب لا تفويض أصل المعنى المفضي إلى تعطيل دلالات ألفاط النصوص على معانيها وهو ما يفتح باب شر قد يلج، بل قد ولج منه الباطنية، فأولوا ما شاء من النصوص مع ظهور دلالات ألفاظها على معانيها بزعم أن لكل نص ظاهرا يدركه العوام وباطنا لا يدركه إلا الخواص، فأنكروا بدائه العقول وخرجوا عن مقتضى الشرع واللسان، فأولوا الأخبار والأحكام على حد سواء فصارت الأحكام عندهم مع ظهور دلالاتها وبيان الشرع لحدودها وأركانها صارت مجرد معان رمزية تدل على معان باطنة لا تمت لظواهرها بصلة وحجتهم في ذلك تأويل المتكلمين للأخبار الإلهية وبعضهم تعدى هذا الحد كالمعتزلة فأولوا السمعيات كأخبار دار الجزاء من صراط وميزان وحوض ..... إلخ، وإن أثبته بعضهم، على تفصيل في ذلك، فإذا كان أولئك قد خاضوا في الإلهيات وهي أكثر عددا وأشرف قدرا من الحكميات العملية فما المانع من تأويل أحكام الشريعة الظاهرة، وحجتهم في ذلك أيضا تسليم المفوضة بعدم دلالة الألفاظ على ظواهرها، فاشتركوا معهم في نفي دلالة اللفظ على ظاهره أو التوقف في ذلك، فاجترءوا على النصوص لما أحجم أهل الحق عن إثبات معانيها، فلم يقم عليهم أحد في هذا الباب حجة دامغة مطردة إلا أهل السنة المثبتون لمعاني الصفات أيا كان نوعها، المفوضون لحقائقها فلا يعلم كيفيتها إلا المتصف بها، جل وعلا، فالمعاني محكمة، والكيفيات متشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله، وأهل الرسوخ يسلمون بذلك فكل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب.

وإنما جاء النعت بصفة الجريان لكون ذلك محط الفائدة في هذا السياق فإن وجه العناية والامتنان في هذا الموضع هو جريان الريح، وذلك مما يعم نفعه في البحر والبر، ففي البحر يرسلها الرب، جل وعلا، فتسوق الفلك إلى موانيها، وفي البر يرسلها الرب، جل وعلا، لواقح للأزهار فتنتج الثمار المطعومة والبذور المزروعة. وذلك من إحكام صنع الرب، جل وعلا، أن هيأ الأسباب وأجراها لإيقاع مسبَّباتها على نحو تظهر به آثار وصف حكمته في تدبير شأن خلقه، فيدبر السفن في البحار بإرسال الريح، فينتفع العباد في انتقال الأبدان والبضائع والمؤن فيحصل بذلك من الاتصال بين البشر على اختلاف أجناسهم ما تتحقق به سنة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فيمتاز التقي من الغوي، ويظهر التباين بين الأديان والأخلاق والأعراف، فتقع سنة التدافع الكونية لا محالة لتباين أمزجة البشر، وذلك أمر مشاهد في البقعة الواحدة فكيف بالبقاع المتعددة، فالأحوال والأجواء قد بلغت من التباين بل التناقض أحيانا ما قد علم، فللقرى أخلاقها، وللمدن أخلاقها، وللبلاد الباردة عوائدها وأمزجتها، وللبلاد الحارة من ذلك ما يخصها، ولأهل كل بلد عرف يخصهم، ولأهل كل دين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير