تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا يحسم هذا النزاع كما تقدم إلا نبوة، ولذلك كان على من يدعو الناس إلى الحق المؤيد بالوحي أن يعتبر ذلك التباين في أخلاق وعادات الناس فإنه لا بد أن يصطدم الحق بالباطل، بل لا بد أن يعلو صوت الباطل ابتداء فتلك سنة الابتلاء الجارية، فإن لم يصبر الداعي على الابتلاء، أو أحس في نفسه الجزع يقينا، فخير له أن يعتزل الناس فلا يتصدى لما ليس له بأهل , ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه، والنفوس أوعية تتفاوت سعة في معرفة الحق وصلابة في تحمل تبعاته.

فمن آياته تلك الجواري على ما تقدم بيانه فهي كالأعلام في ظهورها وبروزها طافية على سطح الماء، وذلك من دلائل إحكام سننه الكونية فقوانين الطفو قوانين محكمة يدل اطرادها على إتقانها ولا يكون ذلك الوجود المتقن إلا مئنة عن مبدع أول ليس على طريقة الفلاسفة الذين جعلوه وجودا مطلقا فجردوه من صفات الكمال إلا العلم البسيط لا الدقيق، على قول بعض محققيهم، فذلك إلى الخيال أقرب، فلا وجود له في الحقيقة، وإنما المبدع الأول لهذا الكون كما نطقت الرسالات هو الرب، جل وعلا، المتصف بكمال أوصاف الذات والأفعال أزلا وأبدا، وشتان المبدعان: المبدع عند الفلاسفة، والمبدع عند الأنبياء عليهم السلام، فالتباين بينهما فرع عن التباين بين الفيلسوف الحائر المنقاد لأوهام العقل، والنبي الصادق المنقاد لأمر الشرع.

فـ: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ: فذلك مئنة من عموم قدرته فملك الريح كسائر الجند العلوي عامل بأمره الكوني ممتثل لأمره الشرعي على حد التسيير، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإن أمروا بإمساك الريح أمسكوا وإن أمروا بإجرائها أجروها نعمة أو نقمة كما وقع لعاد لما كذبت صالح عليه السلام، فدقت الريح أعناق المكذبين.

ثم جاء التذييل على حد التعليل، ففصل عما قبله لشبه كمال الاتصال بينهما، إذ تولد السؤال في ذهن المخاطب عن سبب الإشارة إلى تلك الآيات الكونية الباهرة التي تدل يقينا على انفراده، جل وعلا، بمنصب الربوبية، فجاء الجواب بلازم ذلك من واجب الألوهية فـ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ: فهي آيات تحمل المكلف على الصبر حال الشدة فهي من آثار أوصاف جلاله، والشكر حال النعمة فهي من آثار وصف جماله، ولكل وصف رباني كامل ما يقابله من الواجبات الشرعية على اختلاف درجات مشروعيتها، فلا يفوت العاقل على نفسه أجر الواجب والمندوب فالمدح لهما لازم، والمباح فالمدح له عارض إن وفق العبد إلى استحضار نية صالحة يتلذذ بها بالمباح مع أمن العاقبة بل مع حسنها بما يحصل له بالنية أو النوايا إن كان يحسن التجارة مع أغنى الشركاء جل وعلا. فالتذييل بهذين الوصفين قد استوفى شطري القسمة العقلية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فالعبد لا ينفك عن جملة نعم متكاثرة هي الأصل لكل من نظر في حاله، وإن صادف من البلاء ما صادف، فإنه إن نظر إلى من هو دونه ممن عظمت بليته وقلت حيلته، مع تمام صبره ووفور عزمه، وإن كان طفلا صغير العمر ضعيف القوى كما هو مشاهد في كثير من الحالات الإنسانية التي تبتلى فيها الزهور بآفات لا تقوى أعظم الأجساد على احتمالها ولا تجد مع ذلك إلا صبرا يثير العجب!، إن نظر إلى أولئك الصابرين علم قدر ما هو فيه من نعمة وسعة، فذلك مئنة من كمال عنايته، عز وجل، التي عمت الصحيح والمبتلى، وللرب، عز وجل، ألطاف خفية بعباده، ولكنهم قوم يستعجلون فلا يصبرون على المحن التي تصير بالصبر والرضا منحا فيستخرج الرب، جل وعلا، بها من نفس العبد مواهب إيمانية نادرة ما كانت لتظهر لولا ورود الابتلاء الذي هيجها على الظهور فظهرت، وسؤال السلامة من الابتلاء ابتداء مسلك كل عاقل فلا يقوى أحد على الصمود للقدر الكوني إلا إن شاء له الرب العلي الثبات، وليست الدعاوى في أزمنة العافية بمغنية عن صاحبها شيئا في أزمنة الابتلاء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير