تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ):

فذلك على سبيل التعجب من حالهم، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فإن من أقر للرب، جل وعلا، بقدرته على الإيجاد يلزمه الإقرار له بكمال الانفراد بالألوهية، إذ التمانع في الربوبية الذي يثبت في هذه الآية بانفراده جل وعلا بخلق أعظم الكائنات المشهودة: السماوات والأرض فضلا عن الكائنات المغيبة كالكرسي والعرش، وإنما خاطبهم الرب، جل وعلا، بما يجده الحس الظاهر إمعانا في إقامة الحجة عليهم، فالمشهود المحسوس آكد في ذلك من المغيب الذي لا تتصوره عقول كثيرة بل تدفعه إنكارا وجحودا، فأقيمت عليم الحجة بدلائل الربوبية المشهودة، على وزان قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فلئن سألتهم من خلقهن ليقولن: على سبيل التوكيد بلام الجواب ونون التوكيد المثقلة، فذلك من استنطاق الخصم بالحجة، إذ أقر بنفسه بل أكد إقراره بما تقدم من المؤكدات اللفظية الرافعة لأي احتمال للشك أو التردد، وجاء المسند إليه: العزيز العليم، إذ هذان الوصفان هما قطب رحى الربوبية، فالعزة لازمها القدرة، فإن العزيز لا يعجزه شيء، والله، عز وجل، قدير على كل الممكنات لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماوات، فبقدرته النافذة توجد الكائنات، والعلم لازمه الحكمة، فإن الخلق لا يكون على هذا النحو من الإتقان إلا بعلم سابق، فلا يتقن صانع صنعته إلا بعلم سابق بدقائقها وكلما زاد علمه: زاد إتقانه لصنعته، ولله المثل الأعلى، فإنه قد علم أزلا مقادير الخلق فقدرها على الوجه الذي تظهر به آثار حكمته البالغة، ثم أوجدها في عالم الشهادة بقدرته النافذة على ما قدر ابتداء بلا زيادة أو نقصان، فصدق الشاهد الغائب، وظهر بذلك من كمال ربوبيته، عز وجل، ما استحق به منصب الألوهية على حد الإفراد فلا شريك له في أفعال عباده فرعا عن كونه الرب الذي لا شريك له في أفعاله، فوحده العابدون بأفعال الألوهية فرعا عن توحيدهم له بأفعال الربوبية.

ثم جاء الإطناب في ذكر أوصاف الرب، جل وعلا، ببيان طرف من دلائل عنايته بخلقه، على ما اطرد مرارا من اقتران دلالتي الإيجاد والعناية في معرض إثبات ربوبيته عز وجل:

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:

فذلك إما أن يكون خبرا ثالثا للضمير "هو" في آخر الآية السابقة، فيكون الإطناب في معرض البيان واقعا بتعدد الأخبار، عند من يجوز ذلك، على وزان قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ).

ومن منع ذلك فإنه يقدر لكل خبر مبتدأ من جنس المبتدأ الأول، فيصير الإطناب في هذه الحال بجمل متتالية على حد الفصل إذ لا رابط بينها لشبه كمال الاتصال بينها إذ المسند إليه فيها جميعها واحد وهو الضمير الراجع على الرب، جل وعلا، فهو العليم، وهو القدير، وهو الذي جعل لكم الأرض ..... إلخ، ومؤدى القولين واحد إذ المسند إليه في كليهما واحد، وإن امتاز القول الثاني بوقوع التوكيد بتكرار الضمير فذلك أبلغ في استرعاء انتباه المخاطب.

فذلك من جعله الكوني في معرض الامتنان بتمهيد الأرض وتسهيلها وفيه من دلالة قياس الأولى: الاستدلال على خلق الإنسان وبعثه بخلق ما هو أعظم منه من الأجرام الكونية، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك على وزان ما تقدم في سورة يس من قوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)، فاجتمع في السياق من هذا الوجه: دلالة الإيجاد فالرب، جل وعلا، قد أوجد هذه الأرض على هذا النحو البديع، فلم يجرؤ أحد على ادعاء ذلك، وإن نازع من نازع من طواغيت البشر الربَّ، جل وعلا، خصائص ألوهيته من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير