تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كمال انقياد وتسليم، وخصائص ربوبيته من تشريع بتحليل وتحريم، فلم ينازع أحد في دلالة الإيجاد المعجز على هذا الحد من الإبداع والإتقان، وإنما سفسط من سفسط فنسب هذا الكون المتقن في صنعه المحكم في خلقه الذي تجري كل ذرة فيه لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم نسبه إلى إله نحتته الأذهان أطلق عليه منظرو الإلحاد: "الطبيعة" فهي الفاعلة لهذا الخلق البديع مع عجزها عن تدبير أمرها بل عن رد عدوان الإنسان عليها وهو الذي أفسدها بالعبث فيها ومعارضة سننها الكونية المحكمة التي تجري على وفقها بإذن ربها المدبر، عز وجل، فلو خرج جرم واحد عن مساره لفسد نظام الكون، ولو كان للكون إله مع الله، عز وجل، يأمر وينهى، شرعا أو كونا، لوقع التعارض لا محالة، بل لو وقع التوافق فلا ينفك ذلك عن افتقار كل إله إلى موافقة الآخر له، فذلك وجه نقص لا تنفك عنه أي شراكة، فلا يحسم الأمر إلا بقهر أحدهم للآخر، فالخالق واحد والمدبر واحد، وكل ما سواه لأمره الكوني خاضع وبأمره الشرعي مخاطب، فلا ينفك كائن عن عبودية اختيارية أو إجبارية، شاء أو أبى، فإن لم يكن عابدا منقادا فهو عبد خاضع، والمسدد من اجتمع له الوصفان فهو العابد المنقاد بمقتضى المحبة، العبد الخاضع بمقتضى الإرادة والقدرة، فإذا كانت الوحدانية ثابتة من هذا الوجه، فإن وحدانية التأله بأفعال العباد فرع عنها فوحدانيته، عز وجل، ذاتا وأسماء وصفات على الوجه اللائق بجلاله، ذريعة إلى توحيده بأفعال عباده، كما تقرر مرارا من التلازم الوثيق بين منصب الربوبية وتكليف الألوهية، فجعل بكلماته الكونية الأرض ممهدة، وعلة ذلك قد أبانت عنها مواضع أخر في التنزيل على ما قرره المحققون من أهل العلم من تفسير إجمال آي التنزيل بآي التنزيل أولا قبل النظر في غيرها، فعلة ذلك: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)، و: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، و: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، و: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) .... إلخ، فتمهيدها للسير فيها تدبرا ونظرا لأخذ العبرة الشرعية، واستخراجا لزروعها وما عدن فيها من الكنوز .... إلخ، فجعل فيها سبل السير، وسبل نبات البذر وخروج الزرع، وسبلا يتخللها الماء فتحفظه الأرض ماء معينا فـ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)، فذلك من أدلة عنايته إذ يسر الماء للتناول، فأنزله عذبا ولو شاء لأنزله أجاجا، وجعل بين العذب والمالح برازخ فلا يبغي أحدهما على الآخر، ولو شاء لاختلط الماءان ففسد ماء الشراب، وعدن الماء في الأرض ولو شاء لتخللها إلى طبقات لا يمكنه الوصول إليها، ويسر له سبل الاستخراج من آبار بدائية إلى آلات ميكانيكية، ولو شاء لأقعده عن طلب تلك الوسائل .... إلخ فله الفضل في مهد الأرض وتسبيلها.

وعلة ذلك: لعلكم تهتدون: على تأويل: لتهتدوا فيكون ذلك من قبيل استعارة الرجاء للتعليل، ولقائل أن يقول بأنه لا حاجة إلى تكلف استعارة إذ لعل بمادتها دالة على التعليل فهو أحد استعمالاتها وإن لم يكن معروفا متداولا في اللغة الدارجة بخلاف معنى الرجاء فهو المتبادر إلى الأذهان، وقلة الاستعمال أو ندرته لا تعني بطلانه، وعدم العلم به لا يعني العلم بعدمه، بل هو ثابت في لسان العرب كما أثبته من صنف في معاني الحروف، كابن هشام، رحمه الله، في "المغني" إذ يقول:

"الثاني، (أي من استعمالات لعل): التعليل، أثبته جماعة منهم الأخفش والكسائي، وحملوا عليه: (فقولا لهُ قولاً ليِّناً لعلّه يتذكرُ أو يخشى) ومَن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ويصرفه للمخاطبين، أي اذهبا على رجائكما". اهـ

"مغني اللبيب"، (1/ 302).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير