تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والنظم نفسه يزيد المنة تقريرا وبيانا، إذ فصل بالفلك، فلو عقب بذكر الأنعام بعد الأزواج ما تشوفت النفس إلى ذكرها، فهي داخلة في حد الأزواج فيكون تكرارها من باب الإعادة المحمولة على عطف الخاص على العام، وهو إن كان لا يخلو من وجه بلاغي معروف في باب الإطناب إذ عطف الخاص على العام من صور الإطناب في معرض التوكيد والتنويه بالخاص إذ أفرد بالذكر بعد ذكره ضمن العام، وإن كان له وجه بلاغي على هذا النحو إلا أنه لا يخلو من إعادة فلا يزيد في معناه عن التوكيد على ما اطرد من العطف في مثل هذه المواضع، بخلاف الفصل بالفلك فإنه قطع احتمال التوكيد بالانتقال من الأزواج إلى الفلك ولا رابط بينهما يجعل العطف من باب التوكيد بعطف الخاص على العام، فهو من عطف المتغايرات، فوقع الفصل بين الأزواج والأنعام بالفلك، ثم جاء ذكر الأنعام بعد الفلك تأسيسا لا توكيدا، إذ ذكرها عقيب الفلك ولا رابط بينهما في الماهية فماهية الفلك جامدة وماهية الأنعام حية، فيكون ذكر الأنعام في هذا الموضع بمنزلة الاستئناف، وهذا، كما تقدم، تأسيس لمعنى جديد تشوفت إليه النفس بعد إقحام الفلك بين الأزواج والأنعام، وذلك كما قرر البلاغيون تنبيه بتغيير النظم إذ فصل بين متماثلين في الماهية بمباين لهما فيها، فالأزواج من خيل وبغال وحمير ..... إلخ تماثل الأنعام في ماهية الحياة الحساسة المتحركة فهذا جنس أعلى يشملها، بل ويشملها جنس أدنى فكلها من الحيوانات، بل وجنس ثالث وهو جنس الثدييات، فبينها من التلائم ما يجعل عطف الأنعام على الأزواج هو المتبادر إلى الأذهان، ولكنه عدل عن ذلك إلى عطف الجامد على الحي ثم استأنف بعطف الحي مرة أخرى لما تقدم من تأسيس المنة بذكر الأنعام في معرض الانتفاع بالركوب، وهذا الفصل من جنس الفصل بين المغسولين في الوضوء: اليد والرجل بممسوح وهو الرأس وهو لا يخلو من نكتة بلاغية هي الإشارة إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما قرر الفقهاء في معرض الاستدلال بآية المائدة على وجوب الترتيب خلاف الحنفية، رحمهم الله، الذين جعلوا العطف بالواو مئنة من مطلق التشريك فلا معنى زائد على ذلك، فلا تفيد ترتيبا، كما قرر جمهور النحاة وأهل المعاني الذين صنفوا في معاني الحروف، وإن استدرك ابن هشام، رحمه الله، على السيرافي لما حكى إجماع اللغويين والنحاة على ذلك، بخلاف قطرب والربعي والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي، "مغني اللبيب"، (2/ 18)، وذكر له صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، في معرض هذا المعنى الذي قرره، ذكر مثالا من قول امرئ القيس:

كأنيَ لم أركَبْ جواداً للذةٍ ******* ولم أتَبطن كاعباً ذات خَلْخَال

ولم أسبَأ الراحَ الكُميت ولم أقُلْ ******* لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال

ففصل بين الركوب الأول: كأنيَ لم أركَبْ جواداً للذةٍ، والركوب الثاني: ولم أقُلْ لخيليَ كُرّي كَرَّةً بعدَ إجفال، بتبطن الكواعب لاختلاف نوعي الركوب فالركوب الأول: ركوب اللذة، والركوب الثاني: ركوب الحرب فحسن الفصل بينهما لاختلاف الماهية وإن اتحدا في المعنى الكلي فجنس الركوب المطلق كائن فيهما.

لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ: فذلك نوع إطناب آخر بذكر علة تسخير هذه الكائنات فيستوي الراكب على ظهر الدابة أو الفلك فيذكر نعمة الرب، جل وعلا، عليه، فذلك وجه الامتنان ولذلك ناسب أن يأتي بوصف الربوبية في معرض تعريف النعمة بالإضافة، إذ الربوبية مظنة الإنعام، فهو من فعل الرب، جل وعلا، والربوبية فعل الرب جل وعلا في كونه والإنعام منه، فذلك مما يزيد المنة تقريرا فضلا عن إضافة اسم الرب، جل وعلا، إلى ضميرهم، فهي إضافة تدل على جلاله، عز وجل، إذ هو المهيمن بقدره الكوني عليهم، وجماله إذ هو الرب المنعم المدبر لشأنهم، فاجتمع في الإضافة كمال وصف الرب، جل وعلا، جمالا وجلالا، والسياق دال على إرادة نعمة الركوب خصوصا مع كون الصيغة صيغة عموم إذ المفرد المضاف نص في العموم كما قرر أهل الأصول، ولا مانع من حمل العموم على وجهه عوضا عن تخصيصه بإحدى صوره، وهي صورة الركوب، فهو تحجير للمنة، وتوسيع دائرتها أليق بسياق الامتنان فضلا عن كون العموم متضمنا لصورة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير