تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

البري، عند التأمل، من وجوه عناية الرب، جل وعلا، بعباده، فحرم عليهم الخبائث التي تفسد أبدانهم وأديانهم، فإن آكل الخنزير يفسد البدن بما فيه من الميكروبات والديدان التي ثبت أنها تقاوم درجات الحرارة المرتفعة فلا يجدي طهيه شيئا في تطهير لحمه، فنجاسته كنجاسة الكلب: نجاسة عينية، فلا تزول بالتطهير كالنجاسة العارضة، ويفسد دينه وخلقه، فقد ثبت بالتجربة أن الآكل يكتسب من المأكول خصال خير إن كان طيبا، أو خصال شر إن كان خبيثا، والخنزير معروف بدياثته وقلة غيرته، وهو أمر ظاهر فيمن يأكله، ولعله سبب رئيس في ذيوع الفواحش دونما إنكار في المجتمعات الغربية التي استباحت هذا المحرم الذي أجمعت الشرائع المنزلة على تحريمه، فأباحوه برؤيا راهب، أحل له شيطانه في منامه كل الأشياء حتى النجاسات والقاذورات التي تنفر منها الطبائع السوية، وذلك جار على المعهود من حال النصارى لاسيما رهبانهم من قلة التحرز من النجاسات، بزعم الانشغال بتطهير الروح عن تطهير البدن!.

والشاهد أن الراجح في هذا السياق: إباحة المطعوم البحري على جهة العموم المحفوظ، فتلك منة ربانية تدل على عظم عنايته، عز وجل، بعباده، فرخص لهم في طعام البحر، ولو ميتا، فلا ضرر عليهم في تناوله، كميتة الحيوان البري، فهي خبيثة ضارة، قد حرمها الشرع ونفر منها الطبع، والشرع لا يعارض العقل الصريح أو الطبع السوي، بل يزكيهما بأحكامه التي تلائمهما، وقد استثني من هذا العموم في حق الحيوان البري الميت: ميتة الجراد، كما دل على ذلك حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعا: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ"، خلافا للمالكية رحمهم الله الذين حملوا العموم على ظاهره فلم يخصوه بالجراد لعدم ثبوت الحديث عندهم، فذلك وجه الاعتذار عنهم في مخالفة القول الراجح في هذه المسألة.

ويقال من وجه آخر بأن السياق وهو استثناء من محرم تقدم، يحمل معنى المنة بالمباح، والمنة لا يلائمها التخصيص فهو مما ينغصها، فالأليق حمل العموم على ظاهره ما أمكن وهو الذي تشهد له النصوص وعليه قول الجمهور كما تقدم.

وأشار صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله إلى وجه عموم ثالث تحصل به المنة أيضا، وهو عموم: "أل" في: "البحر"، فلا يدل على البحر المعهود، وإنما يعم سائر أنواع المياه كالبحيرات والأنهار ........ إلخ، فكل مطعوم استخرج منها فهو حلال إلا ما كان يأوي إليها وليس من الكائنات البحرية كالضفادع على سبيل المثال فقد وقع الخلاف في إباحتها، والحنابلة، رحمهم الله، على تحريمها، وذلك جار على سنن الطبع السوي فالنفوس تنفر منها، فليست بمستطابة حسا.

وجاء الإمعان في تقرير المنة الربانية بعطف الطعام على الصيد، فحمله بعض أهل العلم، كما حكى صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، على ما مات دون فعل الصائد، فيكون السياق قد استوفى على هذا الوجه شطري القسمة العقلية: ما مات بفعل الصائد، وما مات حتف أنفه.

ثم جاء استيفاء أوجه المنة باعتبار الآكل أو المنتفع فقد أحل: "متاعا لكم وللسيارة"، فتجوز هبته أو بيعه للجماعات السائرة التي يلقاها المحرم، بخلاف صيد البر، فإنه لا يحل إن كان قد صيد لأجل المحرم كما في حديث الصعب بن جثامة، رضي الله عنه، لما أهدى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صيدا فرده، فتغير وجه الصعب، فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم معتذرا: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ"، وذلك من كمال أدبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تطييب خواطر أصحابه رضي الله عنهم.

وعلى سبيل طباق الإيجاب استيفاء للقسمة العقلية في معرض التشريع بالتحليل والتحريم:

وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا: فحذف الفاعل أيضا: للعلم به، فالرب، جل وعلا، كما تقدم، هو المنفرد بهذا المنصب فهو فرقان عظيم بين الرب الآمر الناهي، والعبد المأمور المنهي، فلا يخرج عن أمره إلا من طغا فاتخذ إلها غيره يرد إليه الأمر والنهي ولو على خلاف الشريعة، فذلك حال الذين: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وجاء عموم: "صيد البر" في مقابل عموم: "صيد البحر"، وفي مقام التحريم تكون المنة بالتخصيص لا بحفظ العموم منه، فالتخصيص يخرج بعض أفراد العام المحرم إلى دائرة الإباحة، ومعنى السعة فيها ظاهر، وذلك وجه امتنان، كما لا يخفى، وقد وقع التخصيص في صورة ما لو أهدي للمحرم من الصيد ولم يكن قد دل عليه أو أعان على صيده، كما أثر عن طلحة، رضي الله عنه، فيكون حلالا، لعدم فعل المحرم، ولو إشارة إليه، وجاء التقييد بـ: (ما دمتم حرما)، فأفاد بمفهومه، كما تقدم، حله خارج زمن الإحرام خارج حدود الحرم إن كان الصائد حلالا غير محرم، فذلك التخصيص بالمفهوم وجه امتنان آخر فليس النهي متصلا لئلا يقع الحرج بذلك، والتقييد بزمن الإحرام من جنس تقييد الصيام بقوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، فذلك مئنة من التخفيف، فهي أيام سرعان ما تنقضي، فيصبر المرء قليلا لينال ثوابا جزيلا، وكذلك الإحرام، فهو أيام قلائل سرعان ما تنقضي ويرجع المحرم حلالا فيباشر ما قد نهي عنه حال إحرامه من المحظورات التي ذكرها أهل الفقه.

ثم جاء التذييل بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، عقيب التحريم ففيه نوع ترهيب من مخالفة الحكم الشرعي بفعل المحرم، فلازم التقوى اجتناب ما حرم الله، عز وجل، من المنهيات المؤبدة أو المؤقتة كما في هذا الموضع، وجاء التعريف بالموصولية إشارة إلى محط الفائدة، وهو المعنى الذي اشتقت من جملة الصلة، فإلى الله، عز وجل، وحده، لا إلى غيره، على جهة الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير يحشر العباد فتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير