تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صيرتهم مضرب المثل في الغلو والتنطع، فهلكوا، فذلك تأويل خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ"، فليست المشقة مرادة لذاتها لتصير مباشرة أسبابها دينا يثاب فاعله، بل هي مما يعرض للمكلف حال مباشرته العبادة المشروعة فتزيد في أجره من هذا الوجه، فهي طارئ على ماهية الفعل المشروع، فليست جزءا منها، فإن الرب، جل وعلا غني عن تعذيب عباده لأنفسهم كما في حديث أبي إسرائيل رضي الله عنه.

ويقال أيضا بأنه تدرج من الأدنى إلى الأعلى في كمال الحال الظاهرة، فالراكب أكمل حالا من الماشي، وإن تفاوت الأجر تبعا لتفاوت النية والإرادة، فـ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"، فلا ينظر الرب، جل وعلا، إلى صورة العمل أو هيئة المركب، وإنما ينظر إلى ما قام بالقلب من نية وإرادة، فإن كانت صالحة فذلك مئنة من قبول العمل، وإن لم يشق على فاعله، فالمشقة، كما تقدم، ليست علامة قبول، فكم من نفوس عملت ونصبت، فهي: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)، على أحد الأقوال في تأويل الآية، فأولئك قوم أجهدوا أنفسهم وأزعجوا جوارحهم بمكابدة نصب العبادة والجوع والعطش والسهر ..... إلخ، وهم مع ذلك بمعزل عن القبول، إذ لم تواطئ أعمالهم ما جاءت به النبوات من صفات وهيئات مشروعة، فزهدوا في المشروع، ولسان حالهم الاستدراك على الشارع، عز وجل، وأحدثوا في مقابل ما قرره الوحي: جملة من الهيئات الحادثة يضاهئون بها المشروع إرادة المبالغة في التعبد، ولو على غير منهاج النبوات، فذلك عين الابتداع المذموم شرعا فـ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".

وجاء الضمير في: "يأتين" عائدا على "كل ضامر" لدلالة: "كل" باعتبار المعنى وإن كانت مفردا في المبنى، على جمع الضوامر التي تحمل الحجاج، فعود الضمير عليها، وإسناد فعل الإتيان إليها باعتبارها وسيلة السفر، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله.

وأشار، رحمه الله، إلى وجه آخر يرجع الضمير فيه على الضمير المرفوع في: "يأتوك"، فهو عائد على الحجاج أنفسهم، وفيه مزيد تعجيب من تيسير الله، عز وجل، السفر مشيا إلى الحج، وذلك أظهر في تقرير المنة الربانية والعناية الإلهية بجموع الحجاج التي قصدت البيت على جهة التعظيم لحرمات الله، عز وجل، فذلك مئنة من التقوى التي يمدح صاحبها فـ: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

فيكون ذلك من باب الاشتراك اللفظي بتعدد الأقوال في مرجع الضمير، فيعود على حقيقتين متباينتين: وإن كانتا متلازمتين: الحجاج ودوابهم التي يسافرون عليها، وهو معنى يعم كل ما استحدث من وسائل النقل كالسيارات والطائرات، فتلك، أيضا، من صور عناية الرب، جل وعلا، بعباده أن يسر لهم هذه المراكب التي أزالت قدرا كبيرا من مشقة السفر.

ولا مانع من الجمع بين القولين لعدم التعارض فعود الضمير على كليهما يفيد معنى صحيحا، فيكون ذلك من إثراء السياق بتوارد المعاني الصحيحة على وجه لا يقع به التعارض، فلا يصار إلى الترجيح إلا بعد تعذر الجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض، كما قرر ذلك أهل الأصول.

ثم جاء النص على جملة من نعم الرب، جل وعلا، على الحجاج على جهة التعليل للأمر السابق فـ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ: فذلك عموم نكر لفظه مئنة من التكثير والتعظيم، فهي منافع كثيرة باعتبار أفرادها، عظيمة باعتبار أوصافها، وجاء الخصوص بعده تنويها بشأن المخصوص، فصدر البيان بـ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: فتلك أعظم المنافع إذ لا منفعة أعظم من المنفعة الشرعية، وتقييد ذلك بالأيام المعلومات، وهي مظنة القلة، تيسير آخر لئلا تمل النفوس وتسأم من العبادة، فذلك من قبيل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، فهو أيام معدودات سرعان ما تنقضي وذلك مما يحفز النفس على

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير