استثمارها ويغريها بالصبر على مشقتها فهي مشقة عارضة.
عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: فذلك من الرزق الشرعي بالنظر إلى عبادة الذبح، فهي من أجل العبادات لمعنى التعظيم لشعائر الله، عز وجل، فيها، فـ: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، و: (نْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)، وذلك أعظم رزق يرزقه المكلف لو وهب سدادا فنظر إلى الأمر من جهة المنة الربانية العظمى بإرسال الرسل عليهم السلام، وتقرير الشرائع، والنسك من أعظمها، كما تقدم، ففيها معنى البذل كسائر العبادات المالية، وفيها معنى الخضوع الباطن بإراقة الدم تقربا إلى الله، عز وجل، فذلك مما لا يكون لسواه، بل الذبح لغيره على جهة التعظيم: شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة بعد إقامة الحجة الرسالية عليه إن كان جاهلا، بخلاف الذبح لغيره على جهة الإكرام، فهو من إكرام الضيف المأمور به شرعا إيجابا أو استحبابا.
وفيه أيضا إشارة إلى الرزق الكوني، فينتفع بلحوم الأنعام التي جاء ذكرها على جهة إضافة الجنس الأعلى بهيمة فيعم سائر أنواع الحيوان، فهو مجمل بينه ما أضيف إليه من الجنس الأدنى، فاقتصر على أفراد بعينهم من عمومه، فلا يكون هدي إلا بإبل أو بقر أو غنم، على تفصيل في أعمارها وأوصافها في باب الهدي والمناسك من كتاب الحج في مدونات الفقه الإسلامي، وبيان هذا الوجه:
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ: على جهة التعقيب بأمر يدل على الإباحة التي لا تخلو من معنى المنة، فلا منة بمحرم، وأمر ثان يدل على الوجوب فذلك من عناية الشارع، عز وجل، بالفقير والمسكين على القول بالتغاير بين مدلول كلا اللفظين: البائس والفقير، وفي الآية دليل لمن ضعف دلالة الاقتران، فلا يلزم من اقتران أمرين أو نهيين تساويهمافي الحكم إيجابا أو استحبابا أو إباحة، بل قد يرد أحدهما للوجوب والآخر للإباحة، كما في هذا الموضع من التنزيل، ونظيره قوله تعالى: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، فالأول: "كلوا" للإباحة على جهة الامتنان، والثاني: "وآتوا": للإيجاب، وشاهده من السنة قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة"، فلا يلزم من اقترانهما على جهة العطف تساويهما في الحكم فيكون الغسل من الجنابة كالتبول في الماء، فالأول: مباشرة طاهر لطاهر، بخلاف الثاني فهو مباشرة نجس لطاهر، فحصل التغاير في الحكم تبعا للتغاير في الوصف.
ثم جاء التذييل بجملة من النعم الشرعية: (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، في معرض ما تقرر من امتنان الرب، جل وعلا، على عباده فإيجاب هذا النسك تطهيرا للنفوس وتحصيلا للمنافع الدينية والدنيوية، فالشرع خير كله ونفع كله لعموم المكلفين في عموم أحوالهم العاجلة والآجلة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[05 - 06 - 2010, 11:47 ص]ـ
ومن نفس السياق تقريبا في سورة الحج:
ومن قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ):
فذلك جار على ما تقدم من الامتنان بالشعائر الدينية التي بها يحصل للعبد كمال الحال في الدين، ولا تخلو من منفعة دنيوية عاجلة، فبنحر البدن وذبح البقر والغنم، تراق الدماء قربة من أعظم القربات إلى الرب، جل وعلا، ويحصل الانتفاع بلحومها فـ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)، فحصلت العناية الشرعية ببيان أحكام الشعيرة، وحصلت العناية الكونية بتسخير البدن وسائر الدواب للإنسان، فمن لحومها يأكل، ومن ألبانها يشرب، ومنها ركوبه، فالمنة عامة، فالأصل في الأشياء الإباحة، وفي
¥