تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأعيان، ومنها البدن وسائر الأنعام، الطهارة إلا ما استثنى الدليل من الأعيان النجسة، كالكلب والخنزير، وأما الذبائح فقد خرجت عن هذا الأصل احترازا، فالأصل فيها الحرمة تحرزا مما لم يذبح، أو ذبح ولم يذكر اسم الله، عز وجل، عليه، في البلاد التي يغلب على الظن عدم تسمية أهلها على ذبائحهم، فهم إما وثنيون لا عهد لهم بالتسمية، وإما كتابيون قد هجروا هذا الحكم فليسوا من أهل: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، وفي "فتح القدير": "وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابيّ يسمى غير الله فلا تأكل، وهو قول طاوس والحسن، وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ويدل عليه أيضاً قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [النحل: 115] ". اهـ

فيكون ذلك من قبيل تخصيص عموم: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، بـ: (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ)، و: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ)، كما أشار إلى ذلك صاحب "البحر المحيط" رحمه الله.

فخرجت الذبائح عن أصل الإباحة، فذلك من قبيل تخصيص المنة العامة صيانة لحق الله، عز وجل، فيجري مجرى النهي عن اتخاذ القبور مساجد، فذلك، أيضا، من قبيل التخصيص لعموم المنة الربانية في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" صيانة لجناب التوحيد بسد الذرائع إلى الشرك بالغلو في المقبورين باتخاذ قبورهم مساجد، والمنة معنى يناسبه التوكيد فقدم ذكر البدن منتصبة على الاشتغال، فتكرار العامل المقدر والمذكور مئنة من التوكيد، وذكر لفظ البدن مصدرا بـ: "أل" الجنسية مئنة من استغراق عموم جنس البدن، وهي النوق العظام البدن، فالعموم فيها جار على ما تقدم من عموم المنة، ولا تخلو من معنى العهد، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد صارت علما بالغلبة على الإبل التي تهدى إلى البيت دون غيرها، فذلك نوع تخصيص بعرف الشارع الذي قصر دلالة اللفظ العام على بعض أفراده.

وأضيف الجعل إلى الرب، جل وعلا، على جهة التعظيم بإسناد الفعل إلى ضمير الفاعلين: "نا"، فذلك، أيضا، من تقرير معنى العناية بالمنة الربانية، بتشريع نحر البدن وذبح الهدي قربانا إليه، تبارك وتعالى، فذلك من الجعل الشرعي: "لكم": فدلالة الاختصاص في اللام: تقرير آخر لدليل العناية بالمكلفين، فما نزلت الكتب وشرعت الأحكام إلا عناية بهم، بإرشادهم إلى ما فيه صلاح الدين والدنيا، فأحكام الشرع خير كلها، فمن العليم الحكيم قد صدرت، فله كمال الإحاطة والتدبير الكوني والشرعي، فبكلماته الكونية النافذة يكون تدبير الكون، فتجري الشموس والأجرام في أفلاكها بسننه الكوني النافذ، وبكلماته الشرعية الحاكمة يكون تدبير الشرع، فيعلم الحلال والحرام من كلام النبوات فهي الواسطة بين الحق والخلق، ولا أنفع من علم الحلال والحرام، فإن شرف العلم بشرف المعلوم وعظم نفعه للمكلف، والعلم بالشرع أشرف أجناس العلوم، فعلوم الأنبياء عليهم السلام أصح وأكمل العلوم، والعلم به أعظم ما ينتفع به العبد في العاجلة بصلاح الحال، وفي الآجلة بصلاح المآل، فسعة في الدنيا، وإن ضاقت أسباب الرزق، وسعة في الآخرة، دار النعيم الكامل.

فالبدن من جنس شعائر الله، التي أضيفت إلى الرب، جل وعلا، على جهة التشريف بالنظر إلى أعيان البدن، فذلك من إضافة المخلوق إلى خالقه عناية بشأنه وتنويها بذكره، فليست البدن التي تساق قربانا إلى الله، عز وجل، كسائر النعم، وإن كان معنى المنة في جميعها حاصلا، وإن كان النظر إلى تشريع نحر البدن، فذلك من إضافة الكلمات الشرعيات إلى قائلها، جل وعلا، فذلك من إضافة الصفة إلى الموصوف بها، فشعائره من كلماته الشرعيات الحاكمة، التي صدرت منه، جل وعلا، صدور الوصف من الموصوف على الوجه اللائق بجلاله، فتكلم بها لما شاء سن الشرائع وتقرير الأحكام، فبعث، رسله، بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام فـ: (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، فذلك، كما تقدم مرارا، من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير