تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أعظم صور العناية الربانية بالنوع الإنساني، فالنبوات وما جاءت به من كلمات الوحي، أشرف أجناس النعم كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.

ثم جاء الابتداء على جهة التنكير: "خير" مؤخرا، فذلك وجه تجويز الابتداء به، بالنظر إلى الصناعة النحوية، فضلا عما يدل عليه، بالنظر إلى الصناعة البلاغية، من توكيد معنى المنة بتقديم ما حقه التأخير، فلكم لا لغيركم، فيها لا في غيرها: خير نكر تعظيما، فالمنة يناسبها معنى التعظيم وهو من أغراض التنكير كما قرر ذلك البلاغيون، وضمير المخاطب في: "لكم" من قبيل خطاب غير المعين، فالعبرة بعموم معنى خطاب التشريع الذي يشمل سائر المكلفين على القول بخطاب الكفار بفروع الشريعة، أو سائر المؤمنين دون نظر إلى أفراد بعينهم، على القول بعدم خطاب الكفار بخطاب الشريعة، فالعبرة، كما تقدم، بعموم خطاب التشريع، لا بخصوص خطاب المواجهة لمن نزلت عليهم الآيات ابتداء، وذلك العموم جار على ما تقرر مرارا من عموم المنة بالشرع إلا ما ورد الدليل على اختصاصه بأفراد بعينهم.

فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ: فذلك من شكران النعمة بالتزام حكم الشرع بوجوب ذكر اسم الله على البدن حال نحرها قائمة، واصطفافها متقاربة مئنة من جلالة هيئتها، كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك مما يلائم مقام النسك الذي يظهر فيه العبد كمال الخضوع والذل للرب ذي الجلال تبارك وتعالى. فلكل نعمة كونية: تكليف شرعي به يكون شكرانها، وذلك جار على ما تقرر مرارا من التلازم الوثيق بين أحكام الربوبية، ومنها ربوبية الإنعام، وأحكام الألوهية، ومنها شكر هذه النعم بذكر اسم الله، عز وجل، حال الاستمتاع بها.

فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا: فالوجوب في هذا السياق يحمل على حقيقته اللغوية المطلقة، فدلالته المعجمية هي السقوط، وفي اللسان: " وأَصلُ الوُجُوبِ السُّقوطُ والوقُوعُ ووَجَبَ الميتُ إِذا سقَط وماتَ ويقال للقتيل واجِبٌ وأَنشد: حتى كانَ أَوَّلَ واجِبِ. والوَجْبة السَّقطة مع الهَدَّة وَوجَبَ وجْبةً سَقَط إِلى الأَرض ليست الفَعْلة فيه للمرَّة الواحدة إِنما هو مصدر كالوُجوب ووَجَبَتِ الشمسُ وَجْباً ووُجُوباً غابت"، فالغياب مئنة من سقوط الشمس من كبد السماء، أو سقوط حاجبها في مقابل ارتفاعه أول النهار.

فالإبل إذا نحرت قائمة، كما جاءت بذلك السنة، فإنها تسقط على جنوبها، وذلك أيسر في نحرها، فلا يحمل الوجوب في هذا السياق على الوجوب الشرعي، كما عند أهل الأصول، أو العقلي، كما عند أهل النظر، أو الصناعي كما عند أهل الفنون من نحو وصرف .... إلخ، فلكل منها قرائن تحتف بها فتعين المراد، فالسياق، كما تقدم مرارا، أصل في تعيين مراد المتكلم، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ: على جهة الفور الذي تدل عليه فاء التعقيب، ولا تخلو من معنى السببية، فالأكل والإطعام فرع عما تقدم من النحر، فلا يكونان إلا بعده، فجاء الامتنان بإباحة الأكل من الهدي، على خلاف فيما يؤكل منه وما لا يؤكل، فذهب الشافعي، رحمه الله، إلى المنع مطلقا فالهدي قد خرج بالإهداء من ذمة من أهداه فلا يحل له الانتفاع بشيء منه، والسنة ترجح خلاف ذلك فقد أكل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هديه، وتلك قرينة ترجح قول من أوجب الأكل منها، فيكون الأمر في: "كلوا" على أصله، ففعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد وقع بيانا لمجمل واجب، فيحمل على الوجوب، ومن حمل الأمر على الإباحة فذلك، جار على ما تقدم من امتنان الرب، جل وعلا، على عباده، بشرع الإهداء قربة، والانتفاع بلحمه فتعم المنة به أمر الدين والدنيا معا، وعطف عليه الأمر بالإحسان المتعدي إلى القانع والمعتر، فذلك، أيضا، من عنايته، جل وعلا، بأهل الفقر والفاقة فشرع من الأحكام ما يسد خلتهم وجوبا أو استحبابا، فيكون ذلك من شواهد ضعف دلالة الاقتران فقد عطف الأمران: "كلوا" و: "أطعموا" على جهة الاقتران مع اختلاف مدلوهما.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير