تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: فذلك من التذييل بتكرار التذكير بتسخير الأنعام بالأمر الكوني ليقع الشكر بامتثال الأمر الشرعي، فلا تذبح إلا لله، عز وجل، ولا يكون انتفاع بلحومها إلا على الوجه الذي شرعه الرب جل وعلا.

فـ: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ: فلا يصله من عباده لحوم البدن أو دماؤها، فهو الغني عنهم وعن ذبائحهم، بل هو الذي خلقها ابتداء ليمتن على العباد بالانتفاع بها، فكيف يفتقر إلى شيء منها؟!، وإنما يناله، على جهة طباق السلب إمعانا في تقرير المعنى بنفي ضده، فيصله منكم: التقوى التي تحصل في القلب بامتثال أمر الشرع في الهدي خصوصا وفي سائر الشعائر عموما، وهو مع ذلك، غني عنها فـ: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، فالعباد هم الذين ينتفعون بما يعملون من أعمال البر، فلا منة لهم على الرب، جل وعلا، بل المنة منه، تبارك وتعالى، أن شرع لهم أسباب التقرب إليه ويسرها لهم، فجاءت أعمالهم على ما يحب ويرضى، فأي منة أعظم من منة التيسير لأسباب الخير وقبوله ممن فعله، فذلك من فضله، جل وعلا، ولو شاء لرده عدلا، فلا يظلم ربك أحدا.

ثم جاء التذكير بمنة التسخير، فذلك من الإطناب بالتكرار، فينتفع الذابح بالأكل من هديه ويتنفع غيره بالإهداء له والتصدق عليه، وما يقابلها من الشكران بامتثال أمر التشريع فـ: كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ: فـ: "على" في هذا السياق تفيد التعليل، كما أشار إلى ذلك صاحب "المغني"، رحمه الله، في الفصل الذي عقده لبيان معاني "على" في: "مغني اللبيب"، (1/ 163).

وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ: بقبول العمل فحصل لهم كمال الانتفاع، فاستمتاع بالنعمة، وذلك قدر مشترك بين سائر البشر، وخروج من عهدتها بأداء حقها، فذلك القدر الفارق بين المؤمن والكافر، فالأول من حزب: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)، والثاني من حزب: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ).

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[08 - 06 - 2010, 05:15 ص]ـ

وعودة إلى سورة الشورى:

ومن قوله تعالى:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ:

فذلك من دلالة الإيجاد فله ملك السماوات والأرض، على جهة الاختصاص والملكية فله ملك أعيانها وتدبير أحوالها، فذلك الملك التام، وهو مئنة من كمال ربوبية الإيجاد بالخلق تقديرا وتصويرا، وربوبية العناية تدبيرا بالشرع والكون، فالقدر الكوني تحفظ به الأبدان والقدر الشرعي تزكوا به الأرواح، كما تقدم مرارا، وذلك مئنة من كمال قدرته وحكمته، فيخلق، على حد الفصل فهو من لوازم الملك فحسن الفصل فلا عاطف بينهما للارتباط الوثيق بينهما، فالخالق، عز وجل، بقدرته، هو المدبر بحكمته، وبكلا الوصفين تثبت له صفة الملك، فهو المليك الجامع لوصفي: الملك والمالك، على جهة الكمال، فليس ملكا متصرفا في ملك غيره، وليس مالكا يتصرف غيره في ملكه، بل له كلا الوصفين على الوجه اللائق بجلاله، والمضارعة في: "يخلق" مئنة من التجدد والحدوث، فذلك أبلغ في بيان كمال قدرته على إيجاد الكائنات، فيخلق ما شاء من الأعيان والأوصاف لدلالة: "ما" على العموم فذلك أبلغ في التوكيد على عموم القدرة على الإيجاد، ثم خص بعد عموم الخلق بذكر خلق الذكور والإناث لكونه مما تتعلق به النفوس، واستوفى السياق القسمة العقلية فيهب الإناث ويهب الذكور ويمنع من شاء منهما، فيجعله عقيما فذلك من الجعل الكوني النافذ، وذلك التقسيم المستوفي لأوجه القسمة العقلية في هذا الشأن مئنة من كمال قدرته وحكمته أن نوع بين أقدار عباده، لتظهر آثار ربوبيته، بتنوع الأقدار والأحوال، وجاء التذييل بالعلم والقدرة فذلك مما يلائم أمر الخلق، فلا يكون خلق إلا بعلم سابق يقدر به الرب، جل وعلا، الكائنات، وقدرة على إيجاد تلك الكائنات المقدرة في عالم الغيب: في عالم الشهادة، كما قد قدر الرب، جل وعلا، أزلا، فيأتي الخلق الإيجادي اللاحق مصدقا للخلق التقديري السابق بلا زيادة أو نفصان مئنة من إتقان الصنعة وإحكام الخلقة.

والتذييل من جهة أخرى قد صدر بالناسخ المؤكد: "إنه"، فذلك من التذييل بالعلة، فحسن الفصل بينهما، أيضا، فلا عاطف، لشبه كمال الاتصال بين العلة والمعلول، والتذييل بالعلة في سياق إثبات كمال وصف الرب، جل وعلا، قدرة وعلما وحكمة، مما يزيد النفس طمأنينة ورضا بقدر الرب، جل وعلا، فإن أعطى فشكرا، وإن منع فصبرا وحمدا، فقد أعطى كل مكلف ما يلائمه، ولكن النفوس بغلظ حجابها لا ترى إلا وجه المصلحة العاجل، وإن ترتب عليه مفسدة آجلة، فالغلام الذي قتله الخضر، عليه السلام، كان باعتبار الحال: قرة عين لوالديه، وباعتبار المآل: سببا في شقائهما لو عاش، فصارت المصلحة في قتله، ولو كان ذلك فسادا في الظاهر، فقد أطلع الرب، جل وعلا، الخضر، عليه السلام، بما أوحاه إليه، فهو نبي على الراجح من أقوال المحققين من أهل العلم، أطلعه على تلك المفسدة الآجلة التي كانت غيبا قد اختص الرب، جل وعلا، بعلمه، فلا يطلع عليه إلا من شاء من عباده برسم النبوة، فصارت المصلحة في ارتكاب أخف الضررين، فدرءت مفسدة القتل الصغرى مفسدة الكفر العظمى، وذلك النظر، الدقيق، كما تقدم في مواضع سابقة، هو خلاصة علوم النبوات.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير