تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ: فذلك من التنزل مع الخصم في الجدال كما يقول صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فلو كان الأمر كذلك وجاز على سبيل الفرض العقلي المحض أن يتخذ الرب، جل وعلا، ولدا، لاتخذ من الجنس الأعلى، فمقالهم قد جمع أطراف القبح، فأثبتوا وجه النقص وليتهم اختاروا الصورة الأعلى بل اختاروا الصورة الأدنى، فذلك على حد قوله تعالى: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، فذلك، أيضا، على حد الفرض العقلي المحض فلا يلزم من مجرد الشرط: وقوع المشروط، بل ذيل بما ينفيه رفعا لأي احتمال، ولو بعد، فـ: سبحانه هو الله الواحد القهار، على حد القصر بتعريف الجزأين، فلا واحد في ربوبيته وألوهيته إلا هو، وإن ادعيت أفعال الربوبية من خلق وتدبير لغيره فتلك دعوى يشهد عجز تلك الأرباب على بطلانها فلا تملك لنفسها فضلا عن غيرها حياة أو موتا، (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا)، وإن صرفت أفعال التأله لغيره من صلاة ودعاء، فليس ذلك بمغن في إثبات صحة التأله لها شيئا، فهي مجرد دعوى تفتقر إلى دليل، فكل يدعي صحة طريقته، ولا يفصل بين المتنازعين في هذا الباب الجليل إلا النبوات، فـ: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا).

فهو الواحد في ذاته القهار في أفعاله فلا يتصور أن يتخذ من ذلك وصف كماله المطلق ولدا يقدح فيه بالنقصان الذي لا ينفك عن اتخاذ الولد أيا كان ذلك، وأيا كان شرف الولد ملكا كان أو نبيا، ففكرة التولد فكرة يلازمها النقص لزوما عقليا لا انفكاك فيه، فسواء قيل بأن الولد قد تولد تولدا حقيقيا، كما يقع في عالم الشهادة فيكون الرب، جل وعلا، قد اصطفى من الجن أو الإنس صاحبة!، فاستولدها ابنا، وذلك أمر يكفي تصوره وتصور أوجه النقص فيه من حاجة إلى ما يستقبح التصريح به، يكفي ذلك في إبطاله، أو كانت ولادة عقلية كما يتفلسف بعضهم، فتكون الكلمة قد تولدت منه وتجسدت في الأقنوم الثاني الذي حل في رحم البتول عليها السلام ليخرج ابن الإله من فرجها بعد أن اكتمل خلقه في رحمها تسعة أشهر كاملة!، وتجسد الكلمة وهي صفة الرب، جل وعلا، في جسد كثيف مخلوق، نقص يتنزه عنه، الباري، عز وجل، إذ يلزم منه حلول صفة غير المخلوق في مخلوق محصور يعتريه من النقص والفساد الجبلي ما يعتريه، فيلحق النقص بل الفناء وصفه، ولازم ذلك طروء النقص على ذاته القدسية فهي سلسلة من اللوازم العقلية من جنس سلسلة لوازم مقالة المعتزلة في مقالة: خلق القرآن، ففي كليهما ادعى القائل حلول غير المحدود: كلمات الرب، جل وعلا، الشرعية كما في مقالة المعتزلة، أو الكونية كما في مقالة النصارى الذين زعموا أن المسيح عليه السلام هو ذات الكلمة التكوينية "كن" والصحيح أنه بها كان، فقال الرب ذو الجلال والإكرام: كن فكان المسيح آية كونية للناس إظهارا لعموم القدرة الربانية في خلق الكائنات الأرضية من طين بلا اب أو أم، ومن اب بلا أم، ومن أم بلا أب، ومن أم وأب، فاكتملت أوجه القسمة العقلية في معرض إثبات عموم قدرته، عز وجل، على الإيجاد، فذلك، أيضا، وجه من أوجه دلالة الإيجاد، محل البحث، استفيدت من وصفه بوحدانية الذات، وتنزهه عن الحدوث، فهو الخالق للأزواج التي تتولد منها الكائنات، بسنن الإيجاد المطردة التي خرقت في معرض الإبداع بخلق حواء أو الإعجاز بخلق المسيح عليه السلام، فله، عز وجل، من الخالقية أشرف المراتب، فهو الخالق المقدر الموجد لما خلق كما قد قدره أزلا ثم شاء إيجاده في عالم الشهادة فجاء كما أراد، ثم دبر أمره في الدار الأولى، ثم أنشره في الدار الاخرة، فخالقيته قد عمت سائر أحوال عباده، فخلق الأعيان وخلق الأفعال وخلق أولا ثم بعث ثانيا، فله المثل الأعلى إذ الإعادة أهون من الإبداع وكلها على الرب، جل وعلا، هينة.

وفي كلا القولين، (قول النصارى والمعتزلة): يلزم القائل حلول ما لا ينتهي فيما ينتهي، فكلمات ربنا، عز وجل، لا منتهى لها، فله في كل قدر كلمة كونية نافذة، والأقدار تتوالى فلا انتهاء لها، حتى في دار القرار، فآحاد نعيمه في الجنان تكون بالكلمات، وآحاد عذابه في النيران تكون بكلمات، فإن صح حلول بعضها في مخلوق منتهي الأركان فذلك حط من وصف الرب ذي الجلال والجمال يتنزه عنه بداهة، وهذا أصل جليل قرره أهل العلم في هذا الباب الشريف من أبواب العلم الإلهي أشرف أجناس العلوم. فلا منتهى لكمال صفات الرب، إذ كمالها فرع عن كمال الذات القدسية المتصفة بها على الوجه اللائق بجلاله.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير