تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ: فذلك من البراء من سائر المعبودات أعيانا كانت أو معان، فـ: "ما" دالة على العموم الذي يشمل سائر الأشياء: عاقلة كانت أو غير عاقلة، محسوسة كانت أو معقولة، أو يقال بأنها على وزان: "ما" في قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، فاللفظ دال على معنى في العين المنكوحة أو المعبودة، وهو في هذا الموضع معنى العبودية فكل ما تحقق فيه هذا المعنى من الآلهة الباطلة التي ادعي لها ما ليس لها من خصائص الربوبية فصرفت أجناس العبودية لها فهي معبودة باعتبار أفعال عابديها، فلا توصف بأنها: معبودة بحق، فذلك وصف الرب، جل وعلا، ولذلك عقب بلازم البراء مما سوى الله بالولاء له وحده لتكتمل عقيدة: الولاء والبراء بشقيها، فولاء لحزب الرسل عليهم السلام وأتباعهم، وبراء من حزب أعدائهم، فالخليل إمام الموحدين أحق الناس بالبراء من أعداء التوحيد.

إلا الَّذِي فَطَرَنِي: فعلق حكم الولاية تألها للرب، جل وعلا، بوصف الفطر أو الخلق فهو من أخص أوصاف الربوبية التي تستوجب تمام التأله للباري، عز وجل، فذلك من الاستدلال بدلالة الإيجاد المعجز على غير مثال سابق على وجوب إفراده، جل وعلا، بالألوهية تعبدا ورقا، فالفطر باعتبار النوع الإنساني، فإنه لا مثال سابق له، وباعتبار الأفراد فإن كل فرد يستقل بخصائص ينفرد بها عن بقية الأفراد ولو كان له منها توأم يماثله فلا بد من قدر فارق يظهر به إبداع الخالق، عز وجل، في كل فرد بعينه بما يهبه من الملكات الجسدية والنفسية فلو لم يكن إلا تباين الروحين بين التوأمين وإن تماثل الجسدان لكفى فكيف والاختلاف كائن بينهما في خصائص جسدية فلكل بصمة تخصه وإن شابه الإصبعُ الإصبعَ فتعاريج الجلد تتباين من إنسان إلى إنسان تباينا يدل على عظم قدرة الرب، جل وعلا، على إبداع الكائنات، ثم ذيل بالشق الثاني من أوصاف الربوبية: شق الحكمة بهداية الموحد في كل شأنه، فذلك من أدلة العناية العامة: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)

على وزان قوله تعالى: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، فهدى كل كائن إلى ما يلائمه من الأحوال الكونية فإن كان حيا حساسا هداه إلى ما يحفظ جسده من أجناس الأغذية وطرائق التناسل حفظا للنوع، وذلك أمر ظاهر في الإنسان وما يليه في الرتب التصنيفية في المملكة الحيوانية من سائر الأنواع، واطراد السنة الكونية في تناول الغذاء وهضمه مئنة من وحدانية الصانع لها، تبارك وتعالى، فتركيب الأجهزة الهاضمة واحد وإن وقع الخلاف لمن درس علم التشريح المقارن في بعض الأجزاء التي اختص بها كل حيوان على وجه يلائمه فيحصل له به كمال الانتفاع بالغذاء، فذلك التنوع، أيضا، مئنة من العناية الربانية بالكائنات، فصارت الأنواع فيما تشابهت فيه دالة على وحدانيته عز وجل، فوحدة المصنوع واطراد سننه العامة مئنة من وحدة الصانع، عز وجل، ووصفه بالصانع جار مجرى الإخبار لا التسمية أو الوصف لتوقيفية الباب فباب الإخبار كما تقدم في مواضع سابقة أوسع من باب التسمية والوصف، والاختلاف في بعض الأجزاء ليقع تمام الملائمة مع الوظيفة الحيوية من غذاء أو تناسل ...... إلخ مئنة من كمال حكمته بوقوع التخصيص فهو مئنة الإتقان فلكل نوع أجزاء تخصه بعينه فلا يقع بها كمال الانتفاع لغيره، وقل مثل ذلك في اطراد السنة الكونية في التزاوج بين أفراد النوع الواحد استيلادا لأفراد جدد يحفظ بهم النوع فلكل زوج من نوعه ما يلائمه فلا يقع التزاوج بين نوعين متباينين فذلك مظنة الفساد ولو جزئيا، فالبغل مع قوة احتماله وسرعة عدوه لتولده من الحمار والحصان لا ينفك عن فساد في بنيته لكونه عقيما لا يلد، فذلك التخصيص في التزواج مع التشابه العام في آلات التوالد، هو، أيضا، مئنة من عنايته، عز وجل، بالكائنات فقدر بحكمته لكل فرد زوجا يلائمه، بل داخل أفراد النوع الواحد لا يصلح التزاوج بين أي فردين، وذلك أمر مشاهد في النوع الإنساني، فلا بد من وقوع التلائم بين الزوجين روحا وجسدا ليقع كمال الاستمتاع وكمال الود الذي ينتظم به أمر الحياة، وفي التنزيل: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير