تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فذلك من دلائل قدرته ودلائل نبوة رسله عليهم السلام على ما اطرد من تمام العناية بهم بإهلاك أعدائهم، فناسب ذلك نسبة الفعل إلى ضمير الفاعلين تعظيما فذلك من مقام الجلال الذي يلائمه التعظيم، فوصف الانتقام من وصف فعل الرب، جل وعلا، فيوقعه بمن شاء من الكفار والفساق بصنوف العذاب التي تباينت صورها مئنة من كمال قدرته وحكمته، جل وعلا، في إيقاع العقوبة بقدر الجناية، وسببه: إغضاب العباد لربهم، جل وعلا، فهو، أيضا، من وصف فعله، عز وجل، ومن وصف جلاله تحديدا، فيغضب على الوجه اللائق بجلاله، كما في حديث الشفاعة: "إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ"، فيكون انتقامه فرعا عن غضبه، فذلك جار مجرى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ"، فالمعافاة فرع عن الرضا، والعقوبة فرع عن السخط، فيكون السياق: سياق عطف لوازم على ملزوماتها على جهة اللف والنشر المرتبين، فالمعافاة في مقابل الرضا، والعقوبة في مقابل السخط، ثم جاء بيان هذا الانتقام بـ: (فأغرقناهم أجمعين): فتلك عقوبة آل فرعون، فلم يستثن الرب، جل وعلا، من الجيش أحدا، فالتوكيد: أجمعين رافع لاحتمال المجاز بإطلاق الكل وإرادة البعض، وذلك آكد في تقرير عناية الرب، جل وعلا، بكليمه، عليه السلام، ومعيته له معية النصرة والتأييد الخاصة، فلسان مقاله عليه السلام لما تراءى الجمعان: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، فعلق المعية بالربوبية، وهي في هذا المقام: ربوبية عناية بإنجاء موسى عليه السلام ومن معه، فذلك من وصف جمال الرب، جل وعلا، فينصر أولياءه، وربوبية عدل بإغراق فرعون ومن معه، فذلك من وصف جلال الرب، جل وعلا، فيهلك أعداءه، فالقياس: مطرد منعكس، فمن آمن فله النجاة والأمن، ومن كفر فله الإهلاك والخوف، وإن أمن ومكن له برهة من الزمان، ولو طالت، فذلك من استدراج الرب، جل وعلا، وإملائه لأعدائه، وفي ذكر عذاب الماضين عبرة للسامعين سواء أكانوا ممن توجه إليهم الخطاب مواجهة زمن نزول الآيات، فهم أولى الناس بالاعتبار، أم كانوا ممن جاء بعدهم ممن أسخط الرب، جل وعلا، بكفر أو فسق، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب، فقد تتباين صور العذاب، ولكن المعنى الذي يوجبه واحد، فلا يكون إلا فرعا عن كفر أو عصيان، فذلك، أيضا، من المعاني المطردة المنعكسة، فهي جارية مجرى القياس القرآني بتعلق المسبَّبات بأسبابها: وجودا وعدما، والتسوية بين المتماثلين وصفا في الحكم، والتفريق بين المتباينين، فلا يستوي الطائع فجزاؤه النجاة وإن أخيف في هذه الدار، بل قد يقتل ويمزق، والعاصي فجزاؤه الهلاك وإن أمن في هذه الدار استدراجا كما تقدم، ثم جاء التوكيد على هذا القياس بإجراء الحكم حال تحقق الوصف فالعبرة من ذكر قصة أولئك:

فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ: فتلك من الآيات الباقيات خبرا أو أثرا على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر)، فالاستفهام قد ضمن معنى الطلب على تقدير: فادكروا. فهم سلف للخلف من العصاة، وهم مثل، أو أمثال، على قول أبي علي الفارسي، رحمه الله، الذي جعل ذلك من الواحد الذي أريد به الجمع، كما نقل عنه ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فقد صيرهم الله، عز وجل، أمثالا، فالجعل هنا بمعنى التصيير بقرينة تعديه إلى مفعولين، وقد جاء مسندا إلى ضمير الفاعلين على ما تقدم من اقتضاء المقام لإبراز وصف الجلال الذي يناسبه التعظيم اللفظي بالإتيان بضمير الجمع، وإن كان الفاعل واحدا، على ما اطرد من سنن العرب في كلامها فتعظم الفاعل بإنزاله منزلة الجماعة، ومن جهة أخرى، يقال، كما تقدم في مواضع سابقة، بأن الجمع مئنة من تعدد أوصاف الكمال الثابتة للرب، جل وعلا، على الوجه اللائق بجلاله، فالفاعل بأوصافه الكاملة الفاعلة ينزل منزلة الفاعلين، وإن كانت ذاته واحدة، فقد قام بها من الصفات ما جوز هذا الجمع، فهو جمع معنوي لا ذاتي، فذاته، عز وجل، واحدة، وإن كانت صفاته جمعا لا يحصيه إلا هو، فلا يحصي ثناء عليه، تبارك وتعالى، بأوصاف الجمال والجلال إلا هو، إذ لا يعلم حقيقة كماله الذاتي والوصفي والفعلي إلا هو.

وأشار صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، إلى وجه آخر يحمل فيه المثل على معنى المثل السائر فقد صاروا عبرة تتناقلها الأمم تناقل الأمثال الدارجة، فذلك آكد في ذمهم، والتحذير من صنيعهم، لئلا يطال من وافقهم في الوصف ما جرى عليهم من الحكم الكوني النافذ بالإهلاك، فذلك، كما تقدم، وجه اطراد هذا القياس في حق من شاكلهم في المعنى، ووجه انعكاسه في حق من خالفهم من الآخرين الذين توجه إليهم الخطاب سواء أكان خطاب مواجهة أم خطاب بيان لكل من بلغه التنزيل، فأقيمت عليه الحجة الرسالية، فالخطاب القرآني: عام لقرينة عالمية الرسالة وعموم التشريع إلا ما دل الدليل على تخصيصه.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير